الأحد الأول من تقديس البيعة
إيمان شخصي مُلتزم (متى 16: 13- 19)
نبدأ اليوم زمناً طقسياً يُكلل مسيرة الكنيسة مع سيّدها ربّنا يسوع المسيح، زمنُ تقديس البيعة، طالبينَ منه أن يُقدسنا جميعاً نحن كنيستهُ، هو الذي قال في صلاته: "وأنا اُقدّس ذاتي من أجلهم" (يو 17: 19). وأولُ حقيقةٍ يجب علينا أن نتذكرها هي أن ربّنا يسوع أرادنا كنيسةً تحملُ الله إلى العالمِ، مثلما جاء هو حاملاً الله إلى العالم. والله هو عطاءٌ سخيٌ، الله هو محبّة، فتكون الكنيسة، بسبب حضورِ الله المُحب فيها، جماعة أخوةٍ حقيقيين ومُتحابين في مسيرة الحياة والإيمانِ، ومتضامنينَ في الفرحِ والحزنِ، فالقديس لوقا وصفَ الكنيسة الأولى قائلاً: "وكانوا مواظبينَ على تعاليم ِالرُسل والشِركةِ في كسرِ الخُبزِ والصلواتِ، وكان جميعُ المؤمنينَ معاً وكان كلّ شيءٍ مُشتركاً بينهم ... ويُلازمونَ الهيكلَ كلَّ يومٍ بنفسٍ واحدةٍ ويكسرونَ الخُبزَ في البيوتِ ويتناولونَ الطعامَ بإبتهاجٍ ونقاوة قلبٍ ... وكان الربُّ كل يومٍ يضمُّ الذين يخلصونَ إلى الكنيسةِ (أع 2: 42). فالمحبة كانت تجمع الكنيسة وتربط أعضائها معاً وكانت الدافعَ لإنضمامِ آخرين إليها، وهذا لأنّ الجماعة شهِدتَ في ربّنا يسوع حضورَ الله، فتبعتهُ. فصلاتنا اليومَ يجب أن تكوَنَ من أجل أن تنتشرَ محبّة الله بيننا فنحاربَ وحوشَ الأنانية التي تُفرّقنا لنكونَ الملكوتَ الذي يُريدهُ الله على الأرض.
سأل ربّنا يسوع تلاميذه: مَن تقول الناس إني إبنُ الإنسان؟ بمعنى آخر: كيف أثّرت كلماته وأفعالهُ فيهم؟ ويأتيه الجواب: أن الناس مُعجبةٌ بكَ يا ربٌّ، إنك نبيٌ عظيم، مُعلمٌ حكيم. وليس في ذلك ما هو جديد عن عالمنا اليوم أيضاً، فهذا ما يقوله غير المسيحيين حتى يومنا هذا عن شخصِ يسوع. ولكنَّ الربَّ لا ينتظر من رُسله أن يقولوا له أقوال الناس وآراءَهم، بل يُريد ان يسمع جوابهم (وجوابنا) الشخصي: "وأنتم مَن تقولون؟ فيأتيه جواب بطرس ليُعلنَ باسم التلاميذ وباسم الكنيسة: انت المسيح إبن الله الحي!
ولكن الفرق بين جواب الناس وجواب الكنيسة؟ فربّنا يسوع علّمَ واتّخذ مواقف شُجاعة!
أن يكون مُعلّما أو نبياً، فهذا يعني لكَ إما أن تختاره وتتبعه وإما ان تنبذ تعليمهِ. فأن يكون المسيح المُخلّص فهذا يعني أنك تعترفُ به ربّاً ومُخلّصاً، يعني أن تتبعهُ بإخلاص، واتباعه مُكلفٌ، اذ يتطلّب حملَ الصليب يومياً والسير في اثره وان نشهد أنه: الطريق الأوحد للوصولِ إلى الله، فهو المُخلّص. أن تعرفَ أن يسوع هو طريقُ الخلاص جيد، ولكنَّ الأفضل هو أن تتبع يسوع على هذا الطريق. وفي أول اسابيع تقديس البيعة، يُريد ربّنا أن يجعل من كنيسته، منّا جميعاً: معجزة التباعة. ربّنا يُقدس كنيسته، شعبه المُستعد ليحمل الصليبَ ويتبعهُ شاهداً لمحبّة الله في العالم. لأن الكنيسة لا يُمكن أن تكون كنيسة يسوع المسيح من دون هذا الجواب الشخصي والمُلتزِم بيسوع المسيح.
ربنا ينتظر منّا أن نكون كنيسته المُقدَسة، وبالتالي أن نُقدّس العالم من حولنا، وهذا لن يتحقق ما لم نكن في صلة وثيقة معه شخصياً. قد نقوم بأعمال محبّة عظيمة، ولكنَّ لن تكون هذه أعمالاً مسيحية ما لم تتأصل في يسوع المسيح مُخلّصنا: أنت المسيحُ إبنُ الله الحي. يعني أن علينا أن نُبرهن في المواقف الصعبة، في الألم والضيق ان لنا جواباً مُحبّاً ليس كجوابِ العالم، فنكون مثل الذهب الذي يُصفَّى بالنار. ربّنا لن يبني كنيستهُ على إيمانِ أناسٍ مُعجبين بكلامه، ولن يبنيها على إيمانِ شعبٍ يكتفي بالتحدث عنه، بل على إيمانِ مَن هو ثابتُ فيه. ربّنا يبني كنيسته على كل مَن هو مُستعدٌ ليكون له شاهداً، والشاهدُ إنسانٌ عرِفَ الحقيقةَ وعاشها، وهو مُستعدٌ ليموت من أجل هذه الحقيقة.
ربنا يسوع لم يعد بالسعادة والراحة لمَن سيتبعهُ بل أكّد لبطرس، ولنا جميعاً، أن الكنيسة ستجابه مُضايقاتٍ خطيرة: "أبوابُ الجحيمِ". كل قوى الشر ستتحالف ضد الكنيسة، ولكن لن تهزم الكنيسة، ما دامت أمينةً لمُخلصها الذي افتداها بدمهِ وجعلها عروسةً له، وإن تخلّفت عن الوعد فهو معها ليشفيها من جروحها. تاريخنا الإنساني يروي المُضايقات والاضطهادات التي انهالت على الكنيسة عبر الاجيال، وكان أشدّها تلك التي تأتي من داخل الكنيسة، والتي سببت إنشقاقاتٍ وتحريمات. خبراتٌ مؤلمة ممن كرسوا أنفسهم لخدمة الكنيسة ورسالتها. ولعل اسوأ محنة تمر بها الكنيسة هي تلك المواقف السلبية التي بعض ابنائها بتشاؤمهم امام مسيرة الكنيسة اليوم، فيقولون يائسين: ان "الكنيسة تسير نحو الهاوية، ولا خير في الكنيسة، ولا نفع لها، هذه هي كلمات المُجّرب التي يفرح إذ يسمعها من افواه ابناء الكنيسة. فهو يُريد أن نرفعَ رايات الإستسلام متناسين أن الصليب كان وما يزال علامة لمصداقية حياة الكنيسة وصدق شهادتها، ورمزاً لانتصار ربّنا يسوع على قوى الشر والظلام.
اليوم يُسمعنا ربّنا يسوع نحن أيضاً السؤال: مَن تقولون أني هو؟ مَن انا بالنسبةِ اليكم؟ وجوابنا سيُحدد هويّةَ حياتنا واسلوبها. ربنا يُريد أن يبني كنيسته التي قدّسها بعطيّة حياته، ويُريد أن يُقدّس العالم كلّها، فينتظر منّا جواباً مُحبّاً. ربّنا يُريد أن نعرفهُ هو شخصياً، أن نكون مُستعدين لنُقدّمَ له بشهادة حياتنا مجالاً ليبني كنيسته مثلما يُريدها: "وأنتم شهودٌ لي". اليوم علينا أن نتبع، فليس أمامنا إلا أن نكونَ مسيحيين. وأن نكون مسيحيين يعني أن نثبُتَ أمينين على ما تلقيناه من نعمة، ولا نيأس أو نتراجع عندما نتعرض لصعوبة او لمحنة. فالذي دعانا هو قدّوسٌ، وعلى كنيسته ان تكون مُقدسة: "كونوا قديسين مثلما أنا قدّوس"، وقداسة الله ظهرت بمحبّته لنا، وهي دعوة لنكون نحن صورته.
التطويبة الخامسة:
طوبى للرُّحماء فإنهم يُرحَمون
قدمّت لنا التطويبات الأربع الأولى صورة عن الإنسان الذي له علاقة صحيحة مع الله، مؤمناً بمحبتهِ الأبوية التي تعتني به وتُدبِّر له حياتهِ، وهو يمتلِك علاقة صحيحة مع الإنسان(القريب) الذي اختاره الله ليتقاسم معه الحياة. وأولُ خبرةٍ، عليه أن يتقاسمها معه، هي أن يُظهِر له صورة حيّة وصادقة عن محبّة الله الأبوية ورحمتِهِ التي قبلتهُ "محبوباً وألبستهُ ثوبَ البنوّة بفرحٍ" رُغمَ ضعفهِ وميوله الشريرة، فيكون رحيماً مع القريب ويُشفِق عليه ويُعامله بالإحسان، ويُحبهُ مجاناً، كما أَحبَّهُ الله مجاناً، فيُظهِر في شهادة حياته قبسا ًمن البهاء الإلهي.
فكلُّ مَن يتبعْ ربّنا يسوع، عليه أن يكون رحيماً وطاهر القلب ويبني السلام ويتوقّع أن يكون عُرضة للإضطهاد والرفض، وهو موضوع المجموعة الثانية من التطويبات، وسيتقدّم ربّنا يسوع الجميع ليكون أُنموذجاً للرحمة والطهارة والسلام، بل سيُرفَض ويُعذَّب ويُهان ويُضطهَد. وهكذا ستبنى الجماعة (الكنيسة) بممارسة الرحمة، وتحقيق العدالة الإلهية:
"وأَنتُمُ الَّذينَ اختارَهمُ اللهُ فقَدَّسَهم وأَحبَّهم، اِلبَسوا عَواطِفَ الحَنانِ واللُّطْفِ والتَّواضُع والوَداعةِ والصَّبْر. اِحتَمِلوا بَعضُكم بَعضًا، واصفَحوا بَعضُكم عن بَعضٍ إِذا كانَت لأَحَدٍ شَكْوى مِنَ الآخَر. فكما صَفَحَ عَنكُمُ الرَّبّ، اِصفَحوا أَنتُم أَيضًا، والبَسوا فَوقَ ذلِك كُلِّه ثَوبَ المَحبَّة فإنَّها رِباطُ الكَمال. ولْيَسُدْ قُلوبَكم سَلامُ المسيح، ذاكَ السَّلامُ الَّذي إِلَيه دُعيتُم لِتَصيروا جَسَدًا واحِدًا. وكُونوا شاكِرين. لِتَنزِلْ فِيكم كَلِمَةُ المسيحِ وافِرةً لِتُعلِّموا بَعضُكم بَعضًا وتَتبادَلوا النَّصيحةَ بِكُلِّ حِكمَة. رَتِّلوا للهِ مِن صَميمِ قُلوبِكم شاكِرين بِمَزاميرَ وتَسابيحَ وأَناشيدَ رُوحِيَّة. ومَهْما يَكُنْ لَكم مِن قَولٍ أَو فِعْل، فلْيَكُنْ بِاسمِ الرَّبِّ يسوع تَشكُرونَ بِه اللهَ الآب. (قولسي 12: 12- 17)
الرحمة في الكتاب المقدس
يستخدم الكتاب المُقدس لفظتين عبريتين للتعبير عن الرحمة. الأولى "راحاميم" وتُترجَم عادة بـعبارة "الرأفة" في العربية، وهي تُعبّر عن ارتباطٍ غريزي بين كائنين يتمركّز في بطن الأم "الرحم: ريحيم" كما وردت على سبيل المثال في الجدال الذي دار في ديوان الملك سليمان حول عائدية إبنٌ حيّ إلى إحدى المرأتين: "فكلَّمَتِ المَلِكَ المَرأَةُ الَّتي ابنُها الحَيّ؛ لأنّ أَحْشاءَها تَحرَكَت على ابنِها، وقالَت: "أًرجوكَ يا سَيِّدي. أَعْطوها الوَلَدَ حَيًّا ولا تَقتلوه". فقالَتِ الأُخرى: "بل لا يَكونُ لي ولا لَكِ. أُشطُروه". فأَجابَ المَلِكُ وقال: "أَعْطوا هذا الوَلَدَ الحيَّ ولا تَقْتُلوه؛ لأِنها هي أُمُّه". (1 ملوك 3: 26- 27). فـ"راحاميم" شعور كياني يُحرِّك الشخص تجاه الآخر حناناً. ويمكن ترجمتها بكلمة "أحشاء" إشارةً - على نحوٍ خاص- إلى الحشا الأبوي، فنفهم –على هذا النحو- محبة الله لشعبه محبةَ أمٍّ لابنها. هكذا يُقدِّمها لنا النبيُّ أشعيا: "أتنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها؟ حتى ولو نسيت النساء فأنا لا أنساك" (أشعيا 49، 15). إن محبة من هذا النوع تعني إفساح مجالٍ للآخر ليأخذ مكانا ًفي داخلي، فأشعر وأتألّم وأفرح مع القريب: "تَذَكَّرَ عَهدَه لَهم وأَشفَقَ بحَسَبِ مَراحِمِه الوافِرَة" (مز 106: 45)، أو أغفر له الإهانة التي ألحقتها به: "وللسَّيِّدِ إِلهِنا الرَّحمَةُ والمَغفِرَة، لأِنَّنا تَمَرَّدْنا علَيه." (دانيال 9: 9).
أما التعبير العبري "حيسيد"، الذي يُترجَم عادة إلى العربية بالرحمة، فيُشير إلى "التقوى" أي العلاقة الروحية التي تربط كائنين معاً، والنابعة من الأمانة الشخصية تجاه العلاقة مع الآخر. وهي تُطبّق على الله وتُعبِّر عن أمانته التي لا تنكثُ بالعهد لشعبه، فهو يُحبُّه ويغفر له للأبد. فعلى الرغم من موقف الإنسان الخاطئ، والذي يستحق قصاصاً، يبقى حبُّ الله الآب، أميناً ويغفر على الدوام للإنسان التائب. فالرحمة تتضمّن المغفرة على الدوام، فهي- وعلى حدّ تعبير البابا فرنسيس- "ليست فكرة مجرّدة بل حقيقة ملموسة يُظهِر من خلالها (الله) محبته كأبٍ وأمٍّ يتأثران حتى الأحشاء من أجل ابنهما. ... تنبثق من الداخل كشعور عميق وطبيعي، مكوّن من الحنان والشفقة، التسامح والمغفرة".
فحين يكون التعبير الأول "راحاميم" فالمعنى هو: تحركٌ نحو الآخر، في حين يأتي التعبير الثاني "حيسيد" ليُشيرَ إلى تحركٍ نحو الذات. فالله، إذ يُقابِل الإنسان شريكهُ في العهد، يكون رحيماً "راحاميم" معه، وعندما يغفر له خطاياهُ يكون رحمة "حيسيد"، فهو يُعبّر عن طبيعتهِ، التي لا يُمكن أن يُخالِفها.
أما العهد الجديد فيحدثنا عن الرحمة الإلهية (إيليوس) كخلاصة لعمل يسوع الذي جاء ليحققه باسم الآب في العالم (راجع متى 9، 13). فرحمة ربنا تظهر بنحوٍ خاص عندما ينحني على البؤس البشري ويُظهر رأفته تجاه الذين يحتاجون للتفهُّم والشفاء والمغفرة. كلُّ شيء في يسوع يتحدث عن الرحمة، لا بل هو الرحمة بحد ذاتها التي تستجيبُ لحاجات الإنسان: الحياة (الخلقة)، الشرِكة (التدبير الإلهي) والغفران (الفداء). ربّنا يسوع هو قلبُ الله النابض بالرحمة تجاه الإنسان، فيتعاطف مع الإنسان ويعمل على انتشالهِ من واقعه المُزري. فالرحمة هي البُشرى السارة: "مغفورة لك خطاياك".
مَن هو الرَّحُوم؟
الرَّحُوم: إنسانٌ يشعرُ بأن الله وهبَهُ حياة جديدة بعد موتِ الخطيئة. فرحمة الله لا تتجاهَل واقع الخطيئة وتتنكر له، بل تتجاوزهُ؛ لتهِبَ للإنسان بدايةً جديدة. لذلِك نجد، كيف أن ممارسة الرحمة صارت واحدة من أهم المُتطلّبات الدينية في اليهودية؛ لأن الله خالقهم "رحوم ورؤوفٌ وطويلُ الأناة"، وأظهرَ رحمتهُ لهم، فعليهم أن يرغبوا في الرحمة (ميخا 6: 8)، وأن يسعوا إلى تحقيقها في حياتهِم. إيمانهُ (قبوله) بمحبّة الله المجّانية ورحمته وصبرهِ غير المحدود: "الرَّبُّ الرَّبّ! إِلهٌ رَحيمٌ ورَؤُوف، طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الَرَّحمَة والوَفاء، يَحفَظُ الَرَّحمةَ لأُلوَف، وَيحتَمِلُ الإثمَ والمَعصِيَةَ والخَطيئَة" (خر 34: 6-7)، يجعلهُ يسمح للرحمة الإلهية التي أفاضت عليه نعمةً أن تشعَّ فيه، ومن خلاله إلى الآخرين. تلقّى الرحمة ويُريد أن يُبرِهِن على حقيقتها في حياتهِ عبرَ الإلتزام بحياة القريب (عدالة)؛ لأنه يشعرُ بأنه مسؤول عنه وعن ديمومةِ حياتهِ حتّى وإن لم يكن هو سبباً لتعاستهِ، على مثال السامري الرحيم الذي جعلهُ ربّنا يسوع أُنموذجَ الإنسان الذي هو على قلبِ الله (يرغب بالحياة الأبدية)؛ لأنه عامَل القريب بالرحمة. ومعاملة الآخرين بالرحمة إستجابة عادلةٌ للإنسان المؤمن برحمةِ الله: رُحمتُ ولم أكن أستحق الرحمة، فعليَّ أن أرحم.
الرَّحُوم: إنسانٌ قادرٌ على أن يشعرَ بآلامِ الآخرين ومآسيهِم، وكأنها مآسيه وآلامهُ هو. مُستعدٌ لأن يتحمّل هذه الآلام من أجل تحقيق الشفاء والسلامِ للقريب المحتاج، مؤمناً أن موقفهُ الرَّحُوم هذا تعبيرٌ عن حاجتهِ الماسّة لأن يُرحَم: "لأنهم يُرحمونَ"، فهو عندما يرحَم لا يعد نفسه خارج حلقة "المُحتاجين إلى الرحمة "، بل هو ضمنَ هذه الحلقة، وعليه أن يقف أمام الله بكل تواضعِ طالباً الرحمة؛ لأنه يشعر بمسؤوليته الإنسانية أمام حاجة الآخرين وألمهم، وأول إلتزامٍ مسؤول هو أن ينتبهِ إلى واقعهم المزري ويقف إلى جانبهم ويُصلِّي معهم ولأجلهِم لينال (هو وهم) الرحمة، ويعمل على تغيير واقعهم، مدركاً أنه بأمس الحاجة إلى رحمة الله ومحبتهِ، كما عبّرت القديسة تريزيا الطفل يسوع عن ذلك حين قالت:
"عندما ينتهي زمن منفاي على الأرض، رجائي أن أذهب وأنعمَ بكَ في الوطن. ولكني لا أريد أن أكدّس الاستحقاقات مؤونةً للسماء، أريد أن أعمل لأجلِ حُبِك وحده (...). في مساء هذه الحياة سأظهرُ أمامكَ صفرَ اليدين، لأني لا أسألُك يا ربِّ، أن تحسِب أعمالي. فكل بِرّ فينا لا يخلو من العيب في عينَك. أريد إذن أن أتلبَّسَ برِّكَ أنت، وأن أقتبلَ من حُبِّك: امتلاكك أنت إلى الأبد".
الرَّحُوم: إنسان يشعر بحاجة الآخر قبل أن يقولها. فنجده إلى جانب مَن فقدَ الرجاء، فلم تعد الحياة عنده نعمة من الله عليه أن يقبلها شاكراً، بل أضحت مُرهِقة لا فرحَ فيها. نسمعهُ صوتاً لمَن هو في ضيقٍ وهو عاجزٌ عن التعبير عن ضيقه، خَجِلٌ من طلب العون، فيكون حضور الرحيم-هنا- "نعمة" مثلما فعلت أمُّنا مريم في عُرس قانا الجليل إذ انتبهَت إلى الحَرج الذي اختبره أهل العُرس وعرِفت حاجاتهم وطلبت من ابنها ليكون إلى جانبهم فيما يحتاجون إليه. فالرحيم، هو مَن يستقبل المُحتاج بابتسامة ولا يُحاول إرجاعه مَهموماً لأنه يرى في وجهه وعيونه جودة الله، فيُعطي بقلبه قبل أن يُعطي بيديه. الرحيم واقف دوماً على قارعة الطريق مستعداً لشفاء كل ما يحتاج إلى الشفاء، ومستعداً لغفران كل مَن هو بحاجةٍ إلى الغفران؛ لأنه يعرِف إنه انسان غُفر له حين كان مذنباً، ومسّته رحمة الله عميقاً، حتى صار مرآة تعكس رحمة الله. هو إنسان حررته رحمة الله من كل غضب وحقد ورغبة انتقامٍ ليعيش حُرية أبناء الله الرحيم.
الرَّحُوم: إنسان ناضجٌ قادرٌ على تجاوز أحكامهِ المُسبَقَة عن الآخرين، ويضع جانباً رؤيتَهُ الشخصية عن الآخر، ويروِّض مشاعِر الغضب والعداوة التي فيه تجاهه ليُعامِله على وفق احتياجاته الآنية مُستجيباً لواقعه المؤلِم. فالرحيم يجعل الحياة على الأرض ممكنة. فكلما سيطر الغضب على الإنسان، تأججت فيه مشاعر الانتقام ليقتل كل فرص الحياة. عندما يرَحم فهو يُعطِي الفرصة من جديد ويتجاوز الغضب والعداوة ليغلِبَ الشر بالخير؛ فلو انتقم كل شخص لما يُصيبه من إهانات، لما كان هناك حياة على الأرض. الحياة ممكنة من خلال أولئك الذين سمحوا للروح القدس أن يعمل في قلوبهم، فيرحموا ويغفروا، وفي ذلِك حكمةٌ يهبهُا الله نعمةً للإنسان المُصلّي إليه: "أَفيكُم أَحَدٌ ذو حِكمَةٍ ودِرايَة؟ فَليُظهِرْ بِحُسنِ سِيرتِه أَنَّ أَعمالَه تُصنَعُ بِوَداعَةٍ تأتي مِنَ الحِكمَة أَمَّا إِذا كانَ في قُلوبِكم مَرارةُ الحَسَدِ و المُنازعة، فلا تَفتَخِروا ولا تَكذِبوا على الحقّ. فمِثلُ هذه الحِكمَةِ لا تَنزِلُ مِن عَلُ، وإِنَّما هي حِكمَةٌ دُنيَوِيَّة بَشَرِيَّةٌ شَيْطانِيَّة. فحَيثُما يَكُنِ الحَسَدُ والمُنازعة، يَكُنِ الاِضْطِرابُ ومُختَلِفُ أَعمالِ السُّوء. وأَمَّا الحِكمَةُ الَّتي تَنزِلُ مِن عَلُ فهيَ طاهِرةٌ أَوَّلاً، ثُمَّ مُسالِمَةٌ حليمةٌ سَمْحَة مِلؤُها رَحمَةٌ وثِمارٌ صالِحة، لا مُحاباةَ فيها ولا رِياء. ثَمَرَةُ البِرِّ تُزرَعُ في السَّلامِ لِلَّذينَ يَعمَلونَ لِلسَّلام. (يعقوب 3: 13- 18)
الرَّحُوم: إنسان أمينٌ في علاقاتهِ؛ لأن الله كان أميناً في محبتهِ له على الرغم من ضعفهُ وميولهِ الشريرة التي جعلته إنساناً خائناً للعهود. محبّة الله الأمينة قبلتهُ مُجدداً، وجعلته يتعلّم الأمانةَ في العلاقات على الرُغم من خيانات الصديق، فلا يقبل بأن تتملّكه مشاعر الغضب والضغينة ضدَّ اي إنسان حتّى لو أساءَ إليه: "وقالَ الرَّبّ: "سِمعان سِمعان، هُوذا الشَّيطانُ قد طَلَبكُم لِيُغَربِلَكُم كَما تُغَربَلُ الحِنطَة. ولكِنَّي دَعَوتُ لَكَ أَلاَّ تَفقِدَ إِيمانَكَ. وأَنتَ ثَبَّتْ إِخوانَكَ متى رَجَعْتَ" (لو 22: 31- 32). وعندما يكون أمينا في علاقاتهِ ويرحَم سينالُ الرحمة؛ "لأَنَّ الدَّينونَةَ لا رَحمَةَ فيها لِمَن لم يَرحَم، فالرَّحمَةُ تَستَخِفّ بِالدَّينونَة" (يعقوب 2: 13).
الرَّحُوم: إنسان قَبِلَ محبّة الله ويرغَب في أن يّوسِّعَها لتشمِل الآخرين، فيشعُر أنه مسؤول عن حياة الجميع: المعارِف والأصدقاء، بل حتّى الأعداء، كما فعلَ إبراهيم والذي عرِفَ أن الله عازمٌ على التحقيق في الشكاوى التي وصلتهُ عن مدينتي سدوم وعمّورة، إذ وقفَ أمام الرب حاملاً إنسانيّته كلّها، في محاولة للدفاع عن شريكه(الله)، وعن(قريبهِ)الإنسان؛ لئلا تسوء هذه العلاقة بينهما. إنسانية إبراهيم تحتضن انتماءَه القومي وتتجاوزهُ، فهو يشعر بأنه مسؤول عن إنسانية الآخر الذي يختلَف عنه ديناً وثقافةً. هو مسؤول عن إنسانية العالم كلّه. هنا يتكامل البُعد العمودي لإيمان إبراهيم مع الله، مع البُعد الأفقي علاقة إبراهيم مع الآخرين، فيظهر تضامناً مع الجميع، ويسأل الله أن تتوسع حدود رحمته لتستوعِبَ عدله إلى أن يصلَ إلى بشارة مُفرحة: يا إبراهيم يُمكن لأبرار قلائل أن يُخلصوا مدينةَ أشرارٍ. فبيّنَ الربُّ من جهتهِ أنه مُهتمٌ بخلاص البار أكثر من هلاك الأشرار: "لا أُزيلُ المدينة إكراماً للعشرةِ" (تكوين 18: 32). شعر إبراهيم بمسؤولية دعوته: "بك تتباركُ الأمم". إنها بركة مصدرها محبّة الله المجانية التي اختارته، الله الذي ليس إلهاً غضوباً، بل له قلبٌ يضطربُ ومراحمه تتّقد، فلن يُعاقبَ في شدّةِ غضبه؛ لأنه قدّوس (هو 11: 8- 9).
الرَّحُوم: إنسان أصغى إلى بشارة الله بيسوع المسيح: "كونوا رحماء، كما أن أباكم السماوي رحيم (لوقا 6: 36)، وآمنَ بها ويعمل على تجسيدها واقعا في حياتهِ، فلا يدين الآخرين ويُحاكمهُم (لوقا 6: 37)، ولا يُثرثِر حسداً أو نفاقاً، ولا ينقل تفاهات الكلام عن الناس، ولا يتكلّم بالسوء عن الإخوة، لاسيما في غيابهم، ولا يُسيء إلى اسمهم وسمعتهِم ومكانتهِم. يُسامِح ويتخلى عن الحقِد والغضَب والعنف، لا ينصِّب العثار في طريق الناس ولا يزرع الريبة والحَيرة في قلوب الآخرين، يرى الخير الذي زرعهُ الله في الآخر حتّى وإن كان الآخر لا يتفطنُ إليه، ليكشِف عن قلبٍ نقي خالٍ من الخُبث والرياء والحسد والغضب والكبرياء، ليس هذا فحسب، بل هو إيجابي في التعامل مع الحياة، مؤمناً أن الله منحهُ "خدمته بمحبة" من خلال "خدمة الآخرين": "الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه." (متّى 25: 40). فيصير إنسانًأ بحق حقيقياً وصديقاً أميناً للجميع، قريبا من الفقراء، ورفيقاً للمرضى، ومُعزيا للمتألمين، يقدّم النُصحَ الأخوي بمحبةٍ. يزرعُ السلام بين العائلات المُتخاصمة، ويسعَى إلى تحقيق المُصالحة بينهما مهما كلّفه ذلك من جهدٍ. ويعمَل كل هذا بفرح (روم 12: 8)، يُشجع ويُبادِر بالكلام الحسن والصالِح للبُنيان (أفسس 4: 29)؛ لأنه مخلوق على صورة الله الذي يُبدِع كل ما هو حسَن وحسن جداً (تك 1: 31).
ربّنا يسوع المسيج: وجه رحمة الآب
كتبَ البابا فرنسيس في "البراءة الرسولية" التي أصدرها بمناسبة احتفال الكنيسة بسنة الرحمة، أنّ الله أظهر في يسوع "رحمة"، فهو وجه رحمة الآب، فصارت الرحمة في ربّنا يسوع منظورة وملموسة. هذا إيماننا الذي نحتفل به شاكرين؛ لأنه إيمانٌ يبعث فينا طمأنينة وسلاماً في أنَّ الله بمحبتهِ تغلّب على خطايانا وتجاوز عثرتنا وقبلنا من جديد أبناءً له، وهو يدعونا إلى أن ننظر إلى الآخرين بعيون الرحمة، فنَرحَم ونرأف ونقبَل مَن تجاوزَ علينا، ونمد يد المُصالحة إلى مَن يُعادينا فنكشِف عن هويتنا: "نحن مَن أحبّهم الله ورحمهم وترأف بهم".
"تجسّد ربّنا يسوع المسيح كان إتمام وعدِ الله للآباء، وعدُ رحمةٍ: "نصَرَ عَبدَه إسرائيل ذاكِراً، كما قالَ لآبائِنا، رَحمَتَه لإِبراهيمَ ونَسْلِه لِلأَبد" (لو 1: 51)، ولم تكن كلمة الله الأخيرة، ربّنا يسوع المسيح، كلمة مُعاقِبة، ولم يُعلِن الله حُكمَ الهلاكِ على الإنسان الخاطئ منتقماً لنفسهِ من أجل الإهانات التي تلّقاها، بل واجه خطيئة الإنسان بالغفران وهداهُ طريق الخلاص بالرحمة والرأفة التي قدّمها بيسوع المسيح. رحمةٍ أعطت الإنسان حياة جديدة؛ لأن الرحمة لا تتعلَّق بماضي الإنسان إذ تغفِر له خطاياهُ فحسب، بل هي مُوجهة نحو حاضره ومُستقبله فتمنحه حياةً جديدةً، فهو "محبوبُ الله"، وعليه أن يعيش هذه الرحمة إلتزاماً مُحباً بالقريب.
هذا الغفران نابعٌ من محبّة الله التي تجعلهُ يُصغي إلى الإنسان في حاجاتهِ ويواجه خطاياهُ مترحماً عليه، سامحاً له بإعادة العلاقة من جديد، ليأتي الغفران نعمةً مجانية لإنسان لا يستحقّها، ودعوةً لأن يلتزِم بالعهد أميناً:" إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة" (يوحنّا 8: 11)، فهذا هو الذي يجب أن يحصل من أجل أن يكونَ الإنسان صالحاً. ربّنا يسوع لم يتجاهل خطيئة المرأة ولم يُبررها بالقاء المسؤولية على الآخرين أو على الظروف التي دفعتها إلى ذلك، بل تتحمل هي المسؤولية؛ لأنها إنسانة حُرّة ومسؤولة عمّا حصل، وهي تقبلُ غفران يسوع الذي يُؤكِد لها أنها لن تُحبَس في خطاياها. فهو الذي جاء ليُحرر المسجونين ويُطلق سراحَ مَن أسَّرَتْهم الخطيئة (لوقا 4: 18- 19). هذا التحرير هو عملية تطهير، أي إستحضار الماضي (الخطيئة) وتغييرهُ، حتّى لا يتكرر، بل يكون بدءاً جديداً، وقيامةَ لإنسان جديد. وهذه نعمةٌ من الله الغافِر. هكذا تتضمن الرحمة دينونة (عدالة) ولكنها تتجاوزها في الوقتذاته.
أكدّ ربّنا يسوع على أنه يُريد الرحمة لا الذبيحة (متّى 9: 13)، وجعل رحمة الله وحنانَهُ واقعاً اختبره الإنسان في حياتهِ ليتعلّم الإنسان معنى الرحمة ومضمونها. لم يُدِن الخطأة أو يحتقرهم، بل دعاهم إلى قبول البشارة: الله يُحبُكم. أشفقَ على المعوزين روحيا ومادياً، ولم تكن الشفقة عاطفة نكرة، بل تحركاً فعّالاً نحو الآخر. أشفقَ على الشعب الجائع إلى الخبز: "فلَمَّا نَزَلَ إِلى البَرّ رأَى جَمعاً كثيراً، فَأَخذَتْه الشَّفَقَةُ علَيهم، لِأَنَّهم كانوا كَغَنَمٍ لا راعِيَ لها، وأَخَذَ يُعَلَّمُهم أَشياءَ كثيرة." (مرقس 6: 34)، وتحنّن على المرضى: "فأَشفَقَ عليهِ يسوع ومَدَّ يَدَه فلَمَسَه وقالَ له: "قد شِئتُ فَابرَأ" (مرقس 1: 41).
رحمةُ ربّنا يسوع وحنانه مثل رحمة الله وحنانه، لا يتعب ولا يكِلُّ، يتغلّب على خطيئة الإنسان: "فقالَ يسوع: "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون" (لوقا 23: 34). فالغفران كان الكلمة الأولى من على الصليب. هذا كلّه ليعلّم الإنسان كيف يكون رحوماً على مثال الآب، رحمةً تخدُم الآخر؛ فيكون الإنسان قريبا من الجياع والعطاش والحزانى والمرضى، عطوفاً تجاه الغرباء، مُعزياً للحزانى وغافراً للخطأة. فالرحمةمن طبعها الخدمة، وخدمتها تعني خلاص الإنسان وتَهَبُه الفداء. هناك إرتباطٌ وثيق ما بين الرحمة والخلاص، فالرحمة لا تتوقف عند خدمةِ حاجاتِ الآخر المادية فحسب، بل تتعدّى ذلك لتُعرّفه بالخلاص الذي جاء به ربنا يسوع المسيح الطريق الحق إلى الله الآب. الرحمة خدمةٌ تُؤدَّى للآخر لتقرِّبَهُ إلى الله.
ربّنا يسوع عاش الرحمة الإلهية وبيّن أن الرحمة هي التي نُفرِح قلبَ الله، ففي الفصل الخامس عشر من إنجيل لوقا نسمع ربّنا يسوع يُحدّثنا عن "الله الآب الرَّحُوم" من خلال أمثال الرحمة الثلاثة: مثل (الخروف الضال)، مثل (الدرهم الضائع) ومثل (الابن الضال). وأكثر ما يُدهشنا في الأمر هو فرح الله، الفرح الذي يشعر به عندما يجد خاطئاً ويغفر له، فرحٌ تحولَّ إلى عُرس ٍووليمة. هنا نجد خلاصة الإنجيل بأسره، فالجميع ضائعٌ وتائهٌ وأساءَ استخدام حريّتهِ بحثا عن "متعةٍ وسعادة عابرة"، فأضاع كلّ شيء. لكن اللهالآب لا ينسانا ولا يتركنا أبدًا. إنه أب صبور ينتظرنا على الدوام، يحترم حريتنا ويبقى أميناً أبداً وعندما نعود إليه يستقبلنا كالأبناء في بيته؛ لأنه لا يكفُّ أبداً عن انتظارنا بمحبة، وقلبه يعَيِّدُ بكل ابن يعود إليه. يُعَيِّد بسبب الفرح، والله يفرح عندما يذهب إليه خاطئ من بيننا ويطلب مغفرته؛ لأن الله يُريدُ عودتَهُ إليه: "يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ، لَيسَ هَوايَ أَن يَموتَ الشِّرِّير، بل أَن يَرجعَ عن طَريقِه فيَحْيا" (حزقيال 33: 11).
"فلْيَكُنْ فيما بَينَكُمُ الشُّعورُ الَّذي هو أَيضاً في المَسيحِ يَسوع" (فيلبي 2: 5)، هي دعوة من الرسول بولس للكنيسة كلّها لتندمج في حركة الرحمة الإلهية التي نلناها من الله الآب هبةً بيسوع المسيح، وهكذا تكون الجماعة (الكنيسة) كنيسة الرحمة. ربّنا يسوع يُريد من كنيستهِ أن تكون جماعة الرحمة لا الذبيحة مؤكداً بذلك على أولية الرحمة في حياة الكنيسة، وتكون معياراً لمصداقيتها. فتُمارس أعمال الرحمة الروحية: التعليم والنُصح والتعزية والتشجيع والمغفرة واحتمال الصعوبات والآخرين بصبرٍ، مثلما تلتزم بأعمال الرحمة الجسدية: الإحسان وإطعام الجياع وإيواء المُشرَدينَ وإكساء المُحتاجينَ والعناية بالمرضى وزيارة المسجونين ودفن الموتى.
أسئلة للتأمل الشخصي:
التطويبة الرابعة
طوبى للجياع والعِطاش إلى البرِ فإنهم يُشبعون
"التطويبات -كما يقول البابا فرنسيس- هي طريق الحياة التي يعلّمنا إياها الرب حتى نسير على خطاه ... التطويبات هي صورة المسيح وبالتالي كل مسيحي ... إنّ التطويبات هي بمعنى آخر البطاقة الشخصية أو هوية المسيحي. إنها تُثبِت بأننا أتباع يسوع. نحن مدعوون لكي نكون طوباويين وأتباع يسوع، أن نواجه الصعاب بروح ومحبة يسوع”. ... “طوبى لمن يبقون مثمرين بينما يواجهون الشرّ الذي يقترفه الآخرون تجاههم، ويغفرون من كل قلبهم. طوبى لمن ينظرون في عيون المهمَّشين والمنبوذين ويظهرون لهم القرب. طوبى لمن يرون الله في كل شخص ويجهدون في سبيل جعل الآخرين يكتشفون المسيح. طوبى لمن يحمون بيتنا المشترك ويهتمّون به. طوبى لمن يتخلّون عن راحتهم الذاتية في سبيل مساعدة الآخرين. طوبى لمن يصلّون ويعملون من أجل تحقيق الوحدة الكاملة بين المسيحيين. كلّ هؤلاء هم رسل رحمة الله وحنانه، وسيُكافَؤون بالتأكيد على ذلك".
إنسان التطويبات هو فقيرُ الروح الذي آمن كلياً بالله، والوديع الذي تحّرر من تجربة التسلّط، والحزين على واقع العالم الخاطئ؛ لذا يكون جائعاً وعطشاً إلى البِر، برِ الله. لا يبحث عن اشباع رغباتهِ وحاجاتهِ الجسدية والمعنوية، بل يُريدُ إتمامَ ما يُريدهُ الله أولاً وقبل كل شيءٍ، ويواصِل عمل الله على الأرض: "طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه" (يو 4: 34).
ولكن، لماذا اختار ربّنا يسوع كلمتي: "الجوع والعطشِ" في تعليمهِ عن واجبِ طلبِ برِّ الله؟ هل يُمكن أن نطوّب الجوع والعطش؟ أَوَ ليسَ الجوع والعطش إهانة لكرامةِ الإنسان؟! فنحن نؤمِن أن لكلَّ إنسان الحق في الطعام والماء من دون تمييز. أَلَم يرفض ربّنا يسوع صرفَ الجموع الجائعة مثلما اقترحَ تلاميذهُ، فأخذ الخُبز والسمكات وبارَك وكسرَ وأعطى التلاميذ والتلاميذ قدّموا للجموع؟! أَلَم يدعو الجياع والعطاش إلى أن يقبلوهُ هو: "أَنا خُبزُ الحَياة. مَن يُقبِلْ إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِنْ بي فلَن يَعطَشَ أبَداً" (يو 6: 35).
يتفقَ مُعظم علماء الكتاب المُقدس أن متّى الإنجيلي أضافَ كلمة "البر" إلى التطويبة، فجعل لها توجهاً خاصاً. فهو لا يتنكّر للجوع والعطش اللَّذَين يُعدان شراً يجب محاربتهُ، مثلما فعل الله عندما رافق شعبهُ في البرية حيث صلّوا إليه طالبين طعاماً وماءً. فليس في الجوع والعطش صلاحٌ أو خير يُرتجى، إلا إذا كانَ نذراً من أجل غاية أسمى، كالصوم مثلاً. أرادَ متّى الإنجيلي أن يعودَ إلى نقطة الإنطلاقة: الجوع والعطش إلى البِر، الجوع إلى الله، والذي يُؤكِد بالضرورة على التزام الإنسان في طلِب مشيئة الله: "لتكُن مشيئتُك كما في السماء كذلِك على الأرض"، وسيكون لهذا الإلتزام المسؤول نتائج وثمار عملية تتركّز في "جعل الله في المركز"، والعمل على إزالة الظلم والفوضى والحرب والفقر والمجاعة عن وجه الأرض، وهو ما فعلهُ ربّنا يسوع في حياتهِ مع الفقراء والجياع والعطاش والمسحوقين والمرضى والمنبوذين، حتّى قدّمَّ نفسهُ خُبزاً يُؤكَل وشراباً يروي عطشَ الإنسان.
لقد عانى الشعبُ مراراً من حالة الخطيئة: إنعدامِ البِر وكثرةِ المظالِم وانحرافِ القضاء وفساد الحُكم، وتعالت أصوات الأنبياء المُطالبة بتحقيق العدالة: "أجروا الحُكمَ بالحق والعدل" (هوشع 10: 12)، فواصلوا شجب كل أشكالِ الظلم والفساد التي حصلت على يد القضاة والملوك، وعدّوا ذلِكَ إهانة لقداسةِ الله: "وَيلٌ لِلقائِلينَ لِلشَّرِّ خَيراً وللخَيرِ شَرّاً، الجاعِلينَ الظُّلمَةَ نوراً والنّورَ ظُلمَة، الجاعِلينَ المُرَّ حُلْواً والحُلْوَ مُرّاً... المُبَرِّئينَ الشِّرِّيرَ لِأَجلِ رَشوَة، والحارِمينَ البارَّ بِرَّه؛ فلِذلك كما يَلتَهِمُ لَهيبُ النَّارِ القَشّ وكما يَفْنى الحَشيشُ المُلتَهِب يَكونُ أَصلُهم كالنَّتْن وبُرعُمُهم يَتَناثَرُ كالتُّراب لِأَنَّهم نَبَذوا شَريعةَ رَبِّ القُوَّات واستَهانوا بِكَلِمَةِ قُدُّوسِ إِسْرائيل" (إش 5: 20 -24). ولأنهم، أي الأنبياء، كانوا يعرفون مدى جسامة خطيئة الإنسان وتعرض العدل والقضاء إلى الفساد، كانوا يتطلعون إلى مجيء الماشيحا الذي سيحكُم بالبِر: "ها إنَّها ستأتي أَيَّامٌ ، يَقولُ الرَّبّ أُقيمُ فيها لِداوُدَ نَبْتاً بارّاً ويَملِكُ مَلِكٌ يَتَصَرَّفُ بِفِطنَة ويُجري الحُكمَ والبِرَّ في الأَرض. في أَيَّامِه يُخَلَّصُ يَهوذا ويَسكُن إِسْرائيلُ في أَمان. والاسمُ الَّذي سيُدْعى بِه هو الرَّبُّ بِرُّنا" (إرميا 23: 5- 6)
فبدء البِر هو عند الله؛ ليجذُبَ الكلَّ إليه، فالله هو الأصل (الجذر)، وهو الذي يمدُّ الساقَ بالغذاء ما دامت متصلّة بالجذرِ لتحملَ الثمار في أوانهِا. هو أب مُحبٌ يُعلِّم أبناءَه طريقَ الاستقامةِ، وإن أخطؤوا وتابوا يستقبلهُم برحمتهِ، فيكون بذلِك أميناً لنفسه: محبّة. فعلى الإنسان التواصل مع الله ليكون لتقواهُ حياةٌ فتحملِ الثمار المرجوة.
مَن هو الجائع والعطشان إلى البر؟
الجائع والعطشان إلى البر: هو إنسان يؤمِن بأن الله وحده هو الذي الذي سيُشبعهُ ويرويهِ، وعليه أن يعي هذه الحاجة في حياتهِ: "أَمَّا أَنا فبِالبِرِّ أُشاهِدُ وَجهَكَ وعِندَ اليَقظَةِ أَشبعُ مِن صورَتكَ" (مز 17: 15)، فلن يُشبع جوعهُ أو يروي عطشهُ تسلطٌ أو مالٌ أو مكانةٌ متميزةٌ أو أي ُّ تطلّعاتٍ إنسانية، فهذا الشكل من الإشباع والإرواء سيتركهُ أكثر جوعاً وعطشاً. الجوع والعطش إلى الله، سيُنظّم كل علاقاتهِ: مع الله ومع الآخرين، ويضعها على المسار الصحيح، فيُعطي الله حقّ التعبّد له بإيمان صادِق وأمين، ويُعطي الإنسان حقّهُ ويرفُض كل أشكال الظلم ِالتي تطال حياة القريب؛ لأنه، أي الإنسان البار، يحمُل حُلمَ الله للخليقة، ويُريدها أن تكون دوماً، مكاناً حسناً فيضعُ السلم حيث العنف، والمحبّة حيث العداوة والنظام حيث الفوضى، واعياً لضعفهِ ومحدودية إمكانياتهِ، وحاجتهِ المُستمرِة إلى الله، إلى التوبة إليه، فلا يتحوّل يوماً من مظلومٍ إلى ظالمٍ، بل يرى "وجه الله" في الفقير والمحتاج: "الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متّى 25: 40).
الجائع والعطشان إلى البر: إنسان يؤمِن بأنّ البِر هو عطيّة من الله: "إِلى أن يُفاضَ علَينا الرُّوحُ مِنَ العَلاء فتَصيرُ البَرِّيَّةُ جَنَّةً وتُحسَبُ الجنَّةُ غاباً ويَسكُنُ الحَقُّ في البَرِّبَّة ويَستَمِرُّ البِرُّ في الجَنَّة ويَكونُ عَمَلُ البِرِّ سَلاماً وفِعلُ البِرِّ راحةً وطُمَأنينَةً لِلأَبَد" (إش 32: 16- 18). عطيّة يقبلهُا بمسؤولية وعليه أن يتحلّى بالشجاعة ليواصِل المسيرة بثباتٍ وحماسٍ مقاوماً تجربة الفتور التي تجعلهُ يتراجعَ ويستكينَ إلى الواقعِ "الشرير" ويقبل به يائساً. الجوع والعطش إلى البِر يدفعان الإنسان الى العمل من أجل القضاء على الجوع والعطش المادي في العالم، وهذا يتطلّب الدخول في حياة الشِركة مع الآخرين بثقةٍ ومحاربة الأنانية التي فيه والتي تجذبهُ إلى ذاتهِ وتجعله ينافِس القريب ويرغبُ في السيطرة عليه والاستيلاء على الخيرات المادية متوهماً أنّ فيها راحتَهُ وسعادتَهُ: "وأَقولُ لِنَفْسي: يا نَفْسِ، لَكِ أَرزاقٌ وافِرَة تَكفيكِ مَؤُونَةَ سِنينَ كَثيرة، فَاستَريحي وكُلي واشرَبي وتَنَعَّمي" (لو 12: 19)
الجائع والعطشان إلى البِر: هو من يسعى من أجل تحقيق صلاح الله في العالم. يُصغي ويتأمَل في كلمتهِ، ويبحث عنه ليكونَ حيثُ يُريدهُ الله. هو يعرِف أن ذلك لن يتحقق إلاّ من خلال مسيرة متيقظة للواقع الذي يعيشه؛ ليتلّمس علامات حضور الله. وكونه جائعاً وعطشاناً إلى البِر يجعلهُ حيّاً وفاعلاً ومُبدعاً يواصِل المسيرة، ولا يدّعي يوماً الوصول أو الشبعَ أو الإرتواء، مؤمناً بأنه مدعوٌ لأن يتعاون مع الله في تحقيقِ البّر (الصلاح): "غَيرَ أَنَّنا نَنتَظِرُ، كما وَعَدَ الله، سَمَواتٍ جَديدةً وأَرضًا جديدةً يُقيمُ فيها البِرّ" (2 بط 3: 13). هذا الإنتظار يخلقُ فيه شوقاً إلى الله، ويقظة لرؤية علاماتهِ في حياته، والإصغاء إلى مشورته الصامتة، فيعمَل على أن يُهيء سُبلَهُ على الأرض: زكريا وإليصابات ومريم ويوسف، فكانوا في حياتهِم طريق الله إلى كل إنسانٍ.
الجائع والعطشان إلى البِر: إنسانٌ يُريد أن يكون عادلاً ومُستقيماً ونزيهاً في علاقاتهِ ومنتبهاً لواقعِ الفقر والظلمِ الذي يفتِك بحياة الكثيرين، فيدفعهُ وعيه وشعوره ليكون مُحباً ورحوماً وسخياً: "وإِن كانَ رَجُلاً فَقيرًا، فلا تَنَمْ ورَهنُه عِندَكَ، بل، عِندَ مَغيبِ الشَّمْس، تَرُدُّه إِلَيه، حتَّى يَنامَ في ردائِه وُيبارِكَكَ، فيُحسَبُ لَكَ بِرٌّ أَمامَ الرَّبِّ إِلهِكَ. لا تَستَغِلَّ أَجيرًا مِسْكينًا أَو فقيرًا مِن إِخوَتكَ أَو مِنَ النزَلاءِ الَّذينَ في أَرضِكَ، في مُدُنِكَ، بلِ ادفَعْ إِلَيه أُجرَتَه في يَومِه، ولا تَغِبْ علَيها الشمْس، لأَنَّه مِسْكين وإِلَيها يَطمَح، لِئَلاَّ يَصرُخ علَيكَ إِلى الرَّبّ، فَتكونَ علَيكَ خَطيئَة" (تث 24: 12- 16). عدالتهُ واستقامتهُ مُقدمَة بصحن المحبة والرحمةِ، وهذا يُجنبهُ السقوط في تجربة "تنصيبِ نفسهِ" ديَّاناً للاخرين، فيبقى الله في المركّز لا ما يظنهُ هو ويعتقدهُ، ويكشِف هو عن نفسه إنساناً مُعتدلاً وفطناً في رؤيته وأحكامهِ. محبّة وإهتمامٌ يتجاوز حاجةِ الفقير المادية والمُباشرة ليشمُل حياتهُ كلهّا، فلا يُجازيه على وفقِ ما يستحقُّ فحسب، بل يُعاملهُ بالمحبة أيضاً فيُعطيه أكثر مما يستحق (عمال الساعة الأخيرة: متّى 20: 1- 16).
الجائع والعطشان إلى البِر: ليس شخصاً أنانياً منغلقاً على ذاتهِ وحاجاتهِ: الجوع والعطش، بل يُصلي طالباً "العملَ بمشيئةِ الله"، وهذه الصلاة الفاعلة تجعلهُ منفتحاً على حاجاتِ الآخرين؛ لأنه يرى العالم بعيون الله. فلا يُطالِب الآخرين بأن يكونوا صالحينَ بل يبدأ مسيرة الصلاح من نفسه: فيصومَ ليوفّر الطعام للجياع، ويُصلي ليكون صوتاً للمظلومين والمُهَمَّشين، ويَتَصدّق (يُحسِن) على المُحتاجين ليُشارِكهم عطايا الله. فالجوع والعطش إلى البر يُحِرران الإنسان من نفسهِ ليكون كلياً لله، ويصدقُ في تعبده لهُ: "أَلَيسَ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُه هو هذا: حَلُّ قُيودِ الشَّرِّ وفَكُّ رُبُطِ النِّير وإِطْلاقُ المَسْحوقينَ أَحْراراً وتَحْطيمُ كُلِّ نير؟! أَلَيسَ هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ" (إش 58: 6-7).
الجائعِ والعطشان إلى البر: إنسان مُحبٌّ للناس (حكمة 12: 19)، يُبالي بما يُعانيه الفقراء من جوعٍ وعطشٍ إلى أبسط مقومات الحياة الإنسانية الكريمة: الخبز والماء، ويشعر في قلبهِ انها مُعاناتهُ هو، ويُشفِق عليهم مثلما أشفقَ ربّنا يسوع: "أُشفِقُ على هذا الجَمْع، فَإِنَّهُم مُنذُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ يُلازِمونَني، ولَيسَ عِندَهم ما يَأكُلون. وإِن صَرَفتُهم إِلى بَيوتِهم صائمين، خارَت قُواهم في الطَّريق، ومِنهُم مَن جاءَ مِن مَكانٍ بَعيد" (مر 8: 2-3). فلا يُمكن أن يكون مثل الغني الذي رأى معاناة لعازر المسكين وتركهُ يُقاسي العذاب، من دون أن يصلَ صُراخهُ إلى قلبهِ. إيمانهُ بالله يدفعهُ إلى محبّة القريب، فالإيمان من دون أعمال ميّت (يعقوب 2: 17). يستقبِل الإنسان البار كلَّ ما يأتيهِ من الله بشكرٍ وفرحٍ، ويعمَل على تجسيد هذا الفرح من خلال استجابات مُحبة لله وتعبدٍ نزيهٍ يُمجِد فيه الربَّ وينعمُ القريب بحياة كريمةٍ ويقف متضامناً مع الفقير والمسكين واليتيم والأرملة والمُستضعَف.
الجائع والعطشان إلى البِر: إنسان يعيش حياتهُ على وفقَ فكِرِ الربِّ ويسعى لإتمام إرادتهِ في حياتهِ، فيمتلِك علاقاتٍ صحيحة مع العالم ومع الآخرين. فيه جوعٌ وعطشٌ إلى الربِّ، وهذا يعني عملياً أنّ فيه جوعاً وعطشاً إلى أمرين لا ينفصلان: العدالة وحياة القداسة، إلى الله، فهو ليس ثورياً يرغبُ في تغيير الأنظمة السياسية والاجتماعية لتحقيق العدالة الاجتماعية بين البشر فحسب، بل يُريد أن تكون هذه خطوة نحو حياة القداسة، أي الإتحاد بالله القدوّس: "أَنَّ الَّذي دَعاكم هَو قُدُّوَس، فكذلِكَ كُونوا أَنتم قِدِّيسينَ في سيرَتِكم كُلِّها، لأَنَّه مَكتوب: "كونوا قِدِّيسين، لأَنِّي أَنا قُدُّوس" (1 بط 1: 15- 16). ويشهدُ التاريخ الإنساني لحركات طالبَت بتحقيق العدالة وحرّكت الجماهير وقامت بثوراتٍ غيّرت فيها أنظمة مُستبدة لتتحوّل هي نفسها إلى أنظمة أكثر استبداداً من سابقتها؛ لأنها كانت تخلو من منطلقات روحية، من الله.
يسوع الجائع والعطشان إلى البِر
تربىّ ربّنا يسوع في بيت يوسف ومريم اللّذين عاشا البر من خلال طاعتهما لله وإن لم يستوعبا حقاً معنى تجسدهِ. وقدّم متّى الإنجيلي يوسفَ بوصفه "باراً" (متّى 1: 18)، والذي أبقى الحوار مع الله متواصلاً لاسيما في الساعات الحرجة التي اختبرها في حياتهِ، فصلّى وقت الأزمةِ وكشفَ في ذلك عن صداقةٍ أصيلة مع الله، فلم يتركهُ الله في ضيقهِ فأرسلَ إليهِ ملاكهُ ليُثبّته في الإيمان ويكشِف عن هوية مريم وعنّ سرّ الحبل الإلهي، وكلّفه برسالة: "أن يُسمي الطفل" ليكون والدَهُ الشرعي.
بِر يوسف تجلّى في استعدادهِ ليكون تحت تصّرف الله وخدمة مشروعهِ، مؤمناً بهِ حتّى لو لم يفهَم ما يُريده الله منه. برّه جعله قادراً على تمييز إرادته؛ لأنه أصغى باعتناءٍ لصوتِه، وأعطى المكانة المُطلقة لله في حياتهِ، ولم يدع أفكاره وتأملاتهِ كي تجرّه إلى طُرق عنيفة أو صاخبة وإلى حلول فوضويةٍ، بل واصل السير في ظلمة الأفكار التي تتصارَع فيه، فاستسلمَ كلياً لله (نامَ نومَ المتأمِل)، حتّى لو لم يفهم تدبير الله ومطالبهِ: "يَرُزقُ حَبيبَه وهو نائم" (مز 126: 2)، ونومٌ البار ليس تهرباً من مشروع الله، بل انفتاح على الحضور الإلهي في حالةٍ من الوعي، إذ يضعُ الإنسان جانباً ما يُفكِر به ليسمَح لله بالتفكير فيه ومن خلالهِ.
برّه كان في فعل الطاعة الذي التزمَ به: "فلمَّا قامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوم، فَعلَ كَما أَمرَه مَلاكُ الرَّبِّ"، فلم يُؤجِل المهمّة لأيامٍ، ولم يستشر مُفسِّرَ أحلامٍ، بل كمّل كل ما أوصاه به الملاك، فصار الحارس والمُدبر والمعتني والمُحّب والمرافِق للأم وطفلها مُتخلياً عن إرادتهِ ورغباتهِ الشخصية ليكون تحت تصرّف تدبير الله الخلاصي. دُعي ليُحبِ خطيبتهُ وزوجته في بتوليتها، ويعتني بطفلها من دون أن يتوقّع مكافأتٍ شخصيةٍ، بل كان عليه تحمُلُ المشقات بسبب هذه الدعوة. دعوته كانت: أن يكون الأب المرئي لتدبير الله الخلاصي على الأرض، أن يخدُم إبن الله وأمه بسخاء تامٍ، وهذه مكافأة بحدّ ذاتها.
وعندما بدأ يوحنا المعمذان رسالتهُ دعا الجموع إلى معموذية التوبة، أي، العيش بأسلوب حياة يختلِف عن المتعارَف عليه، فكان عليهم أن يتركوا عالم الخطيئة والدخول في عالم الله، واستجابَ كثيرون لدعوته، وبضمنهم ربّنا يسوع الذي تقدّم لينالَ العماذ منه، وعندما عارضهُ يوحنا أجابَ ربّنا: "دَعْني الآنَ وما أُريد، فهكذا يَحسُنُ بِنا أَن نُتِمَّ كُلَّ بِرّ" (متّى 3: 15)، فكانت عبارة "البِر" أولى كلمات ربّنا يسوع في إنجيل متّى. وفي تقدّمه للعماذ أرادَ أن يدخلُ في عالمِ الله، فيعيش أسلوب حياة جديد على الأرض فيُحوّل الأرض إلى سماء (عالم الله)، لذلك؛ انفتحَت السموات له عند عماذه: "واعتَمَدَ يسوع وخَرجَ لِوَقتِه مِنَ الماء، فإِذا السَّمَواتُ قدِ انفتَحَت فرأَى رُوحَ اللهِ يَهبِطُ كأَنَّه حَمامةٌ ويَنزِلُ علَيه. وإِذا صَوتٌ مِنَ السَّمَواتِ يقول: "هذا هُوَ ابنِيَ الحَبيبُ الَّذي عَنه رَضِيت" (متّى 3: 16- 17).
"ثُمَّ سارَ الرُّوحُ بِيَسوعَ إِلى البَرِّيَّةِ لِيُجَرِّبَه إِبليس. فصامَ أَربَعينَ يوماً وأَربَعينَ لَيلةً حتَّى جاع" (متّى 4: 1-2)، فما الذي فعلهُ ربّنا يسوع في مواجهةِ الجوع؟
طلبَ المُجرِّب من ربّنا يسوع تحويل الحجارة إلى خبزٍ. أرادَ أن يُجرِّب الله الذي خلقَ كلَّ شيءٍ، وفي تجربتهِ هذه كان يُريد السيطرة على قوّة الله لصالحهِ ليخلُق عالمنا مثلما يراه هو: أنانياً، جشعاً ومليئاً بالعنف والصراعات، ويجعَل من ربنا يسوع المُخلِّص ساحراً، ويُبعِده عن أبيهِ، فيترُك العناية الإلهية ليتّكِل على المخلوقات: الحجارة. لكنَّ ربّنا يسوع كانت سعيداً بالحجارة التي رافقته طوال أربعين يوماً وأربعين ليلة، واستمتَعَ بمنظرها، فلم يرغَب بأن تكون غير ما أرادَ الله الخالِق أن تكون، مؤكداً على ضرورة الإيمان والاتكال على الله الآب، مثلما كُتِبَ في سفر تثنية الإشتراع: "لا بالخُبزِ وَحدَه يَحْيا الإِنْسان، بل بِكُلِّ ما يَخرُجُ مِن فَمِ الرَّبِّ يَحْيا الإِنْسان" (تث 8: 3). فعليهِ أن يُواصِل الصلاة كل حينِ إلى الله الآب من دون اللجوء إلى "آلهةٍ" أخرى مزيفة، لأن كلمة فم الله هي ثمرةُ محبة قلبهِ، وكلمة الله هي كلمة خلاصٍ، وحياةٌ للإنسان.
ربّنا يسوع عاش حياة البِرّ الإلهية وأتمّها في حياتهِ مُجسداً محبّة الله وبرّه على الأرض، ونذكُر هنا حادثتين:
الأولى: عندما شاهد الجموع الكثيرة التي تبعتهُ متعَبة وجائعة أشفقَ عليهم فقدّم لهم خُبزاً وسمكاً مُباركاً: "ثُمَّ أَخذَ الأَرغِفَةَ السَّبعَةَ والسَّمَكات، وشكَرَ وكسرَها وناوَلَها تَلاميذَه، والتَّلاميذُ ناوَلوها الجُموع. فأَكَلوا كُلُّهم حتَّى شَبِعوا ... وكانَ الآكِلونَ أَربَعَةَ آلافِ رَجُل، ما عدا النِّساءَ والأَولاد" (متّى 15: 36- 38). لم يشبَع هو حتّى شبعوا كلّهم، ولم يكن هناك تمييز وتفضيل لشخص على آخر. كل شخص نالَ حصتهُ بالتساوي، في واقعٍ كان يُميِّز بين الرجل والمرأة والأطفال، ويُصنّف الناس إلى مجموعاتٍ، مفضلاً هذا على ذاك. في واقع ملكوت الله، بِر الله، الجميع متساوون أمام الله الآب، وهذا ما يحصل في سرّ الأفخارستيا فالجميع يقبل جسد ربّنا يسوع ودمهُ.
والثانية: عندما حانت ساعت رحيله عن الأرض، أعطانا جسدهُ ودمهُ ليكون طعاماً وشراباً من أجل إعادة بناء العلاقة مع الله الآب: المُصالحة. وهو يدعونا إلى أن نصنعَ هذا لذكرهِ، ليس في قبولنا جسده ودمه فحسب، بل عندما نُصبحُ نحن أفخارستيا للآخرين، فلن يهدأ لنا بالٌ ما لم يُرفَع الظلم والجوع والعطش عن الآخرين. هذا هو (بِرُّ) المسيح، هذه هي عدالته التي يدعونا إليها:عدالة نابعة من نعمةٍ إلهية كما يقول البابا بندكتس السادس عشر في رسالة الصوم الكبير لسنة 2010، حين كتبَ متسائلاً:
ما هي إذن عدالة المسيح؟
إنها، قبل كل شيء، العدالة الآتية من النعمة، فليس الإنسان هو مَن يسنّ القوانين ويشفي نفسه والآخرين. ... التوبة إلى المسيح، الإيمان بالإنجيل، تعني في النهاية: الخروج من وهم الاكتفاء الذاتي بغية أن يكتشف الإنسان ويقبل حاجته – الحاجة الى الآخر ، الحاجة الى الله، الى غفرانه وصداقته. نفهم إذن كيف أن الإيمان بعيد عن أن يكون واقعاً طبيعياً ومريحاً وواضحاً: التواضع ضروري لأقبل بحاجتي الى آخر ليحررني من “ما هو لي”، ليمنحني بمجانية “ما هو له”. وهذا يحصل على نحوٍ خاص في سري المصالحة والافخارستيا ... العدالة التي تشعر في كل حالة بانها مدينة أكثر منها دائنة؛ لأنها حصلت على أكثر ممّا كانت تتوقعه”. بقوة هذه الخبرة بالذات، على المسيحي واجب المساهمة في بناء مجتمعات عادلة، حيث يحصل الجميع على ما هو ضروري للعيش بكرامة تليق بالشخص البشري وحيث العدالة تغذيها المحبة.
فإذا كنتَ جائعاً وعطشاناً إلى البِر، ربّنا يسوع يُطوبَّك؛ لأنّك نلتهُ بالإيمان به: "أَمَّا الآن فقَد أُظهِرَ بِرُّ اللّهِ بِمَعزِلٍ عنِ الشَّريعة، تَشهَدُ لَه الشَّريعةُ والأَنبياء، هو بِرُّ الله، وطَريقُه الإِيمانُ بِيَسوعَ المسيح، لِجَميعِ الَّذينَ آمَنوا، لا فَرْق" (روم 3: 21- 22).
أسئلة للتأمل الشخصي:
الأحد الرابع من الصليب
إن أخطأ إليك أخوك، فأذهب وعاتبهُ (متى 18: 1- 11)
ربّنا يسوع هو مُخلّصنا من الخطيئة ليس فحسب، بل طريقنا إلى الله. هذا الطريق الذي لا يُمكن ان نسيره لوحدنا، لأن إلهنا يسألنا دوماً: أين أخوك؟ ولن نستطيع أن نفلتُ من الجواب. نحن نؤمن أن لنا مسؤولية على حياة وسلامةِ إخوتنا وأخواتنا الجسدية والروحية. فكنيسة ربنا يسوع المسيح ليست تحمع أفراد، بل جماعة محبة مؤسسة على الإيمان بيسوع المسيح مخلصاً. لذا، لا يُمكن أن يبقى الأخ أو الأخت بعيداً عن الجماعة، بل هو مُحتضَن بمحبتهم، ولن يسقط في إثمهِ وخطاياهُ لأن له إخوة وأخوات يُحبونهُ ويعملونَ على أن يبقى قريباً منهم.
وربنا يعرِف أن في هذه الجماعة أمزجةٌ وطباع وشخصيات. وهناك أراءٌ ومعتقدات ووجهاتُ نظرٍ. أحاكمٌ ومواقفَ تجعل العلاقات الإنسانية مُضطربةَ، ولربما تصل إلى حالة من القطيعة بين الإخوة والأخوات. هناك إختلافٌ في وجهات النظر تقود إلى خلافاتٍ، بل عنفٌ كلامي، وعراكٌ وإشتباكٌ بالأبدي. الصراعات جرحت الكنيسة في كل عصرٍ وزمانٍ، ومازالت. لذا، يُرشدنا مُخلصّنا ويُعلمنا، بل يأمرنا حول كيفية التصرّف إزاء هذه الخبرات المؤلمة والتي تُعد حجرة عثرة في طريقنا نحو الله.
فإذا كانت محبّة ربنا يسوع هي التي جمعتنا، وإذا كنّا واعين لمسؤوليتنا إزاء إخوانتا وأخواتنا، فلا يُسمح لي بأن أكونَ حجر عثرٍ في طريق إخوتي وأخواتي، ولا أن أكون أنا سبب زرعِ الشكوك في حياتهم من أن الله قريبٌ ولن ينساهم. أن أكون عضواً في كنيسة رّبنا يسوع، يعني أن التزمَ مسؤولية أن أكون حارساً على حياة القريب، فلا يبتعد عن الجماعة أو يتيه عنها ضائعاً. خطأ الأخت أو الأخت ليس فرصة للثرثرة أو قصة لوسائل الإعلام، بل يتطلب وقفة أخٍ وأخت يتألمونَ لحالة القريب الخاطئ، تماماً مثل الله الآب الذي نُصلي إليه. خطأ الأخ أو الأخت هو ضياعٌ علينا ترك كل شيء ٍللبحث عنه وإعادتهِ. فخطيئة الإنسان إهانةٌ موجهةٌ ضد الله، وعدم المغفرة هو إهانة أعظم.
يروي لنا آباؤنا الروحيون عن أن أحد الفريسيين لذين كانوا مجتمعين حول المرأة التي قدّموها لربنا يسوع وطلبوا حُكمهُ عليها لأنها كانت خاطئة، وقال لهم: مَن كان فيكم بلا خطيئة فليرمها بأول حجر! عاد إلى بيته وبقي مهموماً يُريد أن يعرف ماذا كتب يسوع على الأرض. فرجع إلى الساحة فوجدَ آثار الكتابة وإستطاع أن يقرأها وكانت جملتانِ:
فقد كتبَ ربّنا يسوع: الله الآب يمحو الخطيئة لأنها كتبتَ على التراب. والجملة الأخرى كانت: مَن يرمها بأول حجر يُصيبني أنا"
اليوم مازالت دعوة ربّنا يسوع لنا مطلباً لنعيد التفكير في كيفية التعامل مع أخطاء إخوتنا وأخواتنا: إن أخطأ إليك أخوك فإذهب وعاتبهُ بينكَ وبينهُ وحدكما ... وإن لم يسمع فخذ معك واحداً أو إثنين ... وإن لم يسمع فقل للكنيسة ... وإن لم يسمع فليكن عندك كوثني وعشّار ، والذين أحبهم ربنا المسيح وقدّم حياته من أجلها. فلا مجال للحقد على الأخ والأخت في كنيسة ربنا يسوع، وإن كان هناك مشاعر غضب إزاء ظلمٍ مجحِف، تبقى المحبة الأخوية الأساس الذي عليه يقع كل بُنيان الحياة. فكم نحن بحاجةٍ لأن نسمعَ هذه الدعوة نتأمل فيها. فكم من نزاعاتٍ وصراعات تافهةٍ في حياتنا تستنزف منّا طاقاتٍ كثيرة.
ربنا يأمرنا اليوم بأن نُطبق وصيتهُ المؤلفة من أربع مراحل في حالة إرتكاب خطأ من قبل الأخ أو الأخت تجاهنا. فالخطوة الأولى تكون بأن نُبادر نحن تجاه ونُعاتبهُ على نحو منفرد، لا أن ننتظر أن يأتي هو ليعتذر، ولا أن نقوم بالتشهير به بين الإخوة والأصدقاء، ونؤلِف قصصا وحكاياتٍ كاذبة عنه (أو عنها). وفي حالة عدم إستجابتهِ للعتاب، فهناك فرصة الإستعانة بمَن هم ذا سمعة طيّبة، يُحبون الطرفين ويرغبون في المصالحة. شخص أو شخصين، وليس عشيرة، فلا داعي لتضخيم المشاكل. وإن لم يسمع، فالكنيسة تفتح أبوابها للحكم بين الناس بالعدل والإنصاف. وإذا رفض الإصغاء لكل هؤلاء، فهذا لا يُعطينا الحق لأن نحق ونغضب أو نكرهِ، أو نسعى للإنتقام أو الخصام، فمحبتنا للقريب لا تسمح لنا بأن نتركه يسقط في إثمه. هذا هو الأساس الذي تُبنى عليه العلاقات، فالعتاب ليست غايتهُ إسترداد حقوق مهضومة، بل خلاصُ الأخ أو الأخت لكي لا يهلكوا في خطاياهم. فالله يسألنا دوماً: أين أخوكَ.
التطويبة الثانية: طوبى للودعاء،
فإنهم يرثون الأرض
تبيّن واضحاً في تأملّنا في التطويبة الأولى أن ربّنا يسوع جعل التطويبات واقعاً تاريخياً يستطيع أن يستمد منه كل إنسان القوّة ليعيش هذه التطويبات في حياتهِ، فيرتبِط بربّنا يسوع على نحو شخصي، ويقبَل "يسوع" في حياته نعمةً من الله، ويستجيبُ لهذه النعمة بشهادة حياتهِ هو أيضاً، فيكون صالحاً، يعمل على إحلالِ الخير حيثُما وُجِدَ الشر، والسلام حيثما حصل العنف، واللطف بدلَ العنف، والحوار بدلَ الخصومة، فيكون وديعاً على مثال ربّنا يسوع الذي قدّم نفسه: الوديع والمتواضع القلب (متّى 11: 29).
يواجه المؤمنون تساؤلات مُحيّرة مثل: كيف يسمحُ الله بأن ينالَ الأشرار ما يطمحون إليه؟ يظلمون ويقسونَ ويُحاربون الضعيف ويسلبون الحقوق جشعاً ويغتنون ويتنعمونَ ويبدو أنهم ناجحونَ في حياتهِم، أما الذين يُكملون إرادة الله ويبحثون عن عمل الخير فهم مهانونَ ومظلومونَ ومُضطهَدونَ، فكيف لنا أن نُميّز إرادة الله في مثل هذه الأوقات الصعبة؟ فالجميع يلاحظونَ تنعُمَ الأشرار في الحياة، ويتأسفون لتعاسة حياةِ البار في أحسن الأحوال، هذا إن تذكروهُ! هم يُقِرونَ أن شرَ الأشرار يكمنُ في معاداتهِم الصريحة لله ولشريعتهِ، فيعشون حياةً مُستقلّة عن الله؛ وكأنه غير موجود. ويستغل غيرهم وداعة المؤمنين ولطفهِم ليتغطرسوا أكثر مثلما كتبَ الإمبراطور جوليان رسالةً هزأ فيها بالمسيحيين قائلاً إنه إنمّا إستولى على أموالهِم لكي يجعلهُم فقراء جداً بحيث يتمكنون من أن يدخلوا ملكوت الله. أو يستغِل غيره طيبة المؤمنين ووداعتهم فيواصِل إستغلالهُ وعنفهُ غيرَ مُبالٍ بما يقترفهُ من تغطرسٍ وظلمِ.
هنا تأتي كلمة الربّ في المزمور 37 وتدعو المؤمن إلى الإتكال على الربِّ والثقة به، فيُمارٍس الإحسان ويحرص على عدم الإنجرار وراء طريق الأشرار لأنهم سيُستأصلون، لأن الذين يرجون الربَّ، الودعاء، سيرثون الأرض وسينعمون بسلامٍ وفيرٍ. مؤكداً على أن الله سيهبُ للصالِحَ وللأمين الأرضَ، )لم يقل سيستملكها(، بل ستُعطى له نعمةً. فلا يحقّ له أن يسمح للحسد وللغضب أن ينسلَّ إلى قلبهِ فيجعلهُ يُعادي ويُخاصِم ويُحارب ويرتكبُ الأثمَ ليحصَل على الأرض مُغتصباً مثلما يفعل الأشرار، بل عليه أن يضعَ رجاءه في الرب وهو سينعم عليه بحياة وافرة.
ولكنّ ما أهمية الأرض ومكانتها بالنسبة إلى المؤمن؟ لاسيما أن الربَّ وعدَ الآباء بأرضٍ تدرُ لبنا وعسلاً؟
طلبَ موسى من فرعون أن يُطلِق سراح شعبهِ المُستَعبَد ليتعبّد لله: "كَذا قالَ الرَّبُّ إِلهُ إسرائيل: أَطلِقْ شَعْبي لِكَي يُعَيِّدَ لي في البَرِّيَّة" (خر 5: 1)، فهدفُ الخروج كان: الحصول على حُرية العبادة، عبادة الربِّ وليس تملُّك الأرض. فالأرضُ وسيلة وليست غاية، وستُعطى لهم لتكون مكاناً ليعيشوا فيه حياة الطاعةِ للربِّ ويعملوا لتكون حياتهُم والأرض خاليةً من الأصنامِ. لذلك، إنتُزعَت الأرضُ منهم عندما أقترفوا الخطايا وتجاوزوا المحرّمات، فصارت الأرضُ غيرَ صالحة للعبادة، لأن قلبَ الإنسان تشامخَ ونسي خالقهُ وفاديه. ونقرأ توصيات موسى للشعب في سفر تثنية الإشتراع:
"فإِنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ مُدخِلُكَ أَرضًا طَيِّبَة، أَرضًا ذاتَ سُيولِ ماءٍ وعُيونٍ وغِمارٍ تَتَفَجَّرُ في الوادي والجَبَل، أَرضَ حِنطَةٍ وشَعير وكَرْم وتينٍ ورُمَّان، أَرضَ زَيتٍ وعَسَل، أًرضًا لا تأكُلُ فيها خُبزَكَ بِتَقتير، ولا يُعوِزكَ فيها شيءٌ، أَرضًا حِجارَتُها حَديد ومِن جِبالِها تَقلعُ النُّحاس. فتأكُلُ وتَشبعُ وتُبارِكُ الرَّبَّ إِلهَكَ لأَجْلِ الأَرضِ الطيّبةِ التي أَعْطاكَ إِيَّاها. تَنَبَّهْ لِئَلاَّ تَنْسى الرَّبَّ إِلهَكَ، غيرَ حافِظٍ لِوَصاياه وأَحْكامِه وفَرائِضِه الَّتي أَنا آمُرُكَ بِها اليَوِم، مَخافةَ أَنَّكَ، إِذا أَكَلتَ وشَبِعتَ وبَنيتَ بُيوتًا جَميلةً وسَكَنتَها وكثُرَ بَقَرُكَ وغَنَمُكَ وفِضَّتُكَ وذَهَبُكَ كلُّ ما لَكَ، يَشمَخُ قَلبُكَ فتَنْسى الرَّبَّ إِلهَكَ الَّذي أَخرَجَكَ مِن أرضِ مِصْر، مِن دارِ العُبودِيَّة، ... ولئَلاَّ تَقولَ في قَلبِكَ: إِنَّ قُوَّتي وقُدرَةَ يَدي صَنَعتا لي هذه الثَّروَة. بل تَذكُرُ الرَّبَّ إِلهَكَ، فإِنَّه هو الَّذي يُعْطيكَ قُوَّةً لِتَصنعً بِها الثَّروَة، لِكَي يُثَبِّتَ عَهدَه الَّذي أَقسَمَ بِه لآبائِكَ كما في هذا اليَوم. وإِن نَسيتَ الرَّبَّ إِلهَكَ وسِرتَ وَراءَ آِلهَةٍ أُخْرى وعَبَدتَها وسَجَدتَ لَها، فأَنا شاهِدٌ عليكمُ اليَومَ بأَنَّكم تَهلِكونَ هَلاكًا. كالأُمَمِ الَّتي يُهلِكُها الرَّبُّ مِن أَمامِكم، هكذا تَهلِكونَ أَنتُم أيضًا لأَنَّكم لم تَسمَعوا لِصَوتِ الرَّبِّ إِلهِكم" (تث 8: 7-20).
فعلى الإنسان أن يعيش حياتهُ وديعاً ليرثَ الأرض، فإذا كان عنيفاً سترثهُ (أوغسطينوس)، وكان القديس فرنسيس الأسيزي يقول لإخوتهِ: إخوتي دعونا من امتلاك الأرض لئلا نُضطَر إلى حمل السلاح ولحمايتها.
يُريدنا إلهنا وملكنا إذاً أن نجعل الوادعة أسلوبَ حياةٍ ونعمَل على تعزيزها في علاقاتنا مع الآخرين إن أردنا أن نكون فاعلينَ في بناء جسدِ المسيح: الكنيسة. "كونوا ودعاء كالحمام (متّى 10: 16)، فتكون سيرتنا تليقُ بالدعوة التي دُعينا إليها، سيرةً ملؤها التواضعُ والوداعة والصبر، متحملينَ بعضُنا بعضاً بالمحبةِ" (أف 4: 1-2). فالوداعة هي ثمرةُ إيمانٍ بالله ووعي بإرادتهِ الطيبّة لنا التي تتجاوّز طموحاتنا وأحلامنا، وانفتاح (إستعدادٌ) لقبولهِا في حياتنا. هكذا نعمل معه على تشكيلِ "جماعة السلام حيثُ يُملُك الربُّ إلهاً أوحَد"، فنحوّل الأرض إلى ملكوت الله، فتندمِج تطلّعاتنا وطموحاتنا الشخصية لتكون في خدمة مشروع الله على الأرض.
مَن هو الوديع؟
الوديع: هو الإنسان الذي يُؤمِن بالله أباً يرعاه وبتدبيره المُحِب: "فلا تَهْتَمُّوا فَتقولوا: ماذا نَأكُل؟ أوماذا نَشرَب؟ أو ماذا نَلبَس؟ فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إِلى هذا كُلِّه. فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه. لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد، فالغَدُ يَهتَمُّ بِنَفْسِه. ولِكُلِّ يَومٍ مِنَ العَناءِ ما يَكْفِيه" (متى 6: 31- 33). يطمَح المسيحي إلى أن يكون "مواطن" ملكوت الله ويعيشَ حياتهُ ليقبَلَ ملكوتً الله نعمةً. لا يبحث عن امتيازتٍ معنوية أو مادية، ولا يسمَح لمشاعر الحسد والغيرة والغطرسّة والتذمّر أن تنسلَ إلى قلبهِ، فلا يسعَى إلى التسلّط أو التملّك، بل يشعر نفسه حُراً حتّى في ما يمتلكهُ شاكراً الله على عنايتهِ الأبوية. فهو يعلمُ أنه إزدادت ممتلكاتهُ، إضطرَ إلى حراستها لئلا تُسرَق منه، ويسعى في الحصول على المزيد منها. لذا، يُصلي دوما طالبا نعمة الله لتُثبّتهُ في مواجهة تحديات وتجارِب عدّة قد تجّره إلى الإغتناء مُبرراً ذلك: إنه بركةٌ من الله، أو إلى التكاسُل مدّعياً: أن الله يُدبّر، أو إلى التغطرُس متوهماً أنه "مُختار" من العناية الإلهية لقيادة شعبهِ. الوديع، إنسانٌ طموحٌ مثل الآخرين، ويُريد أن يكون الأول، ويحقُّ له، ولكنه قد اختارَ طريقَ ربّنا يسوع في تحقيق طموحاتهِ، ليس بسحقِ الآخرين، بل بخدمتِهِم، بالنزول إليهم والإرتفاع معهم في نفس الوقت (مر 9: 35).
الوديع: إنسان يعرِف كيفَ يُدافِع عن إيمانهِ دون أن يكون دفاعهُ فرصةً لإهانة الآخرين، وتكون حياتهُ الصالحة خيرَ شهادة على إيمانهِ بالمسيح: قدِّسوا الرَّبَّ المَسيحَ في قُلوِبكم. وكونوا دائِمًا مُستَعِدِّينَ لأَن تَرُدُّوا على مَن يَطلُبُ مِنكم دَليلَ ما أَنتم علَيه مِنَ الرَّجاء، ولكِن لِيَكُنْ ذلك بِوَداعَةٍ ووَقار، وليَكُنْ ضَميرُكم صالِحًا، فإِذا قالَ بَعضُهم إِنَّكم فاعِلو شرّ، يَخْزى الَّذينَ عابوا حُسْنَ سِيرَتِكم في المسيح. فخَيرٌ لَكم أَن تَتأَلَّموا وأَنتُم تَعمَلونَ الخَيْر، إِن شاءَ اللهُ ذلك، مِن أَن تَتأَلَّموا وأَنتُم تَعمَلونَ الشَّرّ" (1 بط 3: 15- 17).
الوديع: إنسانٌ يتحمّل الظلَم بصبرٍ من دون غضبٍ، فينتصِر عليه بهدوئهِ، ولا يُجازي الشرَ بالشرِ أو الشتيمةً بأخرى. إنسان يُقابِل الشر بالخير. ليس ضعيفاً أو جباناً، بل وديعاً لطيفاً يعرف أن يُحِب ويعرِف كيف يسيطر على غضبهِ ليكون عادلاً ولطيفاً، فلن يأسرهِ، وهذا ما لا يستطيع الجبان أن يفعلهُ لأنه يحبُس عنفهُ خوفاً لا محبةً، لذا، فهو يُؤجِل الإنتقام ويتربص الفرص للإيقاع بالقريب لأنه لم ينسى ولم يغفر، وهذه ليست وداعةٌ بل جُبنٌ وخوفٌ.
الوديع: هو مَن يقفُ إلى جانبِ الضعفاء مُستعداً لأن يتحمَل الألم في سبييلهم. لن يسكُت عن الظُلِمِ والمهانة التي يختبرِها هو أو القريب، ولكنه لن يكون الظُلم مُبرراً لعنفٍ شخصي: "إِن كُنتُ أَسَأْتُ في الكَلام، فبَيِّنِ الإِساءَة. وإِن كُنتُ أَحسَنتُ في الكَلام، فلِماذا تَضرِبُني؟" (يو 18: 23) لذا، فهو يتألَم بسبب ظُلمِ الناس له وللآخرين، ويحزنِ لخيانتهِم، ولكنه راسخٌ في محبّة الله الأمين، ووجدَ مكانهُ في قلبِ الله. وإيمانهُ هذا يجعلهُ متأنياً في أفكاره ومشاعره ومواقفهِ فلا يُبادلُ العنف بالعنف.
الوديع: ينطلِق من محبّة الآخر ليُصلِح القريب الذي يُخطئ، غير متناسياً أنه ليس أفضل منه، فينصحهُ ليُصلِح ذاتهُ من دون الإساءة إليه. يعرِف أن يَختار المكان والزمان والظروف المناسبة للإصلاح، ويتجنّب إهانة الآخر وإحراجهِ: "كونوا ودعاء في تأديب المُخالفين" (2 طيم 2: 25). تواضعهُ ووداعتهُ ولطفه لا تعني أنه يتغاضى عن "إصلاحِ الآخرين"، فسفرُ العدد يقول: "وكانَ موسى رَجُلاً مُتَواضِعًا جِدًّا أَكثَرَ مِن جَميعِ النَّاسِ الَّذينَ على وَجهِ الأَرض". (عدد 12: 3)، مع أنه قضىَ بين شعبهِ معلماً ومُرشداً ومُصلياً وموبخاً، بدافعِ محبتهِ لله ولشعبهِ، من أجل أن يكون تعبدُ الشعب صادقاً. فالإصلاح يجب أن يُقدَّم بصحن المحبّة والرعاية، وإلا صارَ فرصةً للتسلّط على الآخر.
الوديع: إنسانٌ يحترِم الآخرين ويُشعرِهم بقيمتهم مهما قلَّ شأنهم في الحياة. إنسانٌ يبني علاقاتهِ مع الآخرين على أُسس الإحترام والنزاهةِ من دون أن يُنافِسهُم على مكانةٍ أو منصبٍ أو شيءٍ، فلا يتعالى عليهم، ولا يغدرُ بهمِ ولا يُعرّض حياتهم للخطر أو للحرجِ. مُعتدلٌ في أحكامهِ ولا يتسارَع في قراراتهِ، ويعرِف كيف يضبُط أفكارهُ ومشاعرهُ وخاصةً لسانه، فلا يلعَن أو يستهزئ، بل يُبارِك ويُهنى ويشكُر ويعتذِر. وما أكثر الصرعات التي تنشبُ بسبب عدم ضبطِ اللسان الذي نجعلهُ أحياناً كثيرة أنياباً تُمزِق حياة القريب بسبب طيشنا أو غضبنا: " ... وهكذا اللِّسان، فإِنَّه عُضوٌ صَغير ومِن شَأنِه أَن يُفاخِرَ بِالأَشياءِ العَظيمَة. أُنظُروا ما أَصغَرَ النَّارَ الَّتي تُحرِقُ غابَةً كَبيرة! واللِّسانُ نارٌ أَيضًا وعالَمُ الإِثْم. اللِّسانُ بَينَ أَعضائِنا يُدنِّسُ الجِسمَ كُلَّه ويُحرِقُ الطَّبيعَةَ في سَيرِها ويَحتَرِقُ هو بِنارِ جَهَنَّم. ... إِنَّه بَلِيَّةٌ لا تُضبَط، مِلُؤه سَمٌّ قاتِل، بِه نبُارِكُ الرَّبَّ الاَب وبِه نَلعَنُ النَّاسَ المَخلوقينَ على صُورَةِ الله. مِن فَمٍ واحِدٍ تَخرُجُ البَرَكَةُ واللَّعنَة. فيَجِبُ يا إِخوَتي أَلاَّ يَكونَ الأَمْرُ كذلِكَ. (يعقوب 3: 2- 10)
الوديع: إنسانٌ يترُك أثراً طيباً حيثمُا حلَّ، فكلامهُ عذبٌ ولسانهُ طيّب (سيراخ 6: 5). لا يُجامِل على حسابِ الحقيقة، ولكنه يختارُ الجواب الليّن لئلا يُثيرَ غضبَ الآخرين (أم 15: 1). مُؤدَب ويحترِم الآخرين في حضورهم وغيابهِم. وداعتهُ تُكسبهُ ثقة الناس وتجذبُهم إليه، بوداعتهِ وصبره ولطفهِ لأنه يقدِم نفسه "أخاً أو أختاً" للجميع، فلا يُثيرُ حضوره في الآخرين إنزعاجاً أو حرجاً أو غضباً أو عداوة. لذا، يتربّع على قلوبِ الناس؛ يرث الأرض.
من هنا جاءتَ دعوة ربّنا يسوع: "تَعالَوا إِليَّ جَميعاً أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم. اِحمِلوا نيري وتَتَلمَذوا لي فإِنِّي وَديعٌ مُتواضِعُ القَلْب، تَجِدوا الرَّاحَةَ لِنُفوسِكم" (متى 11: 28- 29). فإذا كان القلبُ طاهراً ونقياً، سيجعلُ حياة الإنسان طاهرة ونقية من كل خُبثٍ وشرٍ ومقاصدَ سيئة وعنيفة: "وقال: "ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان، لأَنَّهُ مِن باطِنِ النَّاس، مِن قُلوبِهم، تَنبَعِثُ المَقاصِدُ السَّيِّئةُ والفُحشُ وَالسَّرِقَةُ والقَتْلُ والزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والمَكْرُ والفُجورُ والحَسَدُ والشَّتْمُ والكِبرِياءُ والغَباوة. جَميعُ هذِه المُنكَراتِ تَخرُجُ مِن باطِنِ الإِنسانِ فتُنَجِّسُه" (مر 7: 20- 23). فيا يسوع الوديع والمتواضِع القلب، إجعل قلبنا شبيهاً بقلبِكَ.
الأحد الثاني من الصليب
قلّة الإيمان مبعثُ شكوك للآخرين (متى 17: 14 - 21)
سجدَ والد الصبي أمام ربّنا يسوع يشكو حالة إبنهِ طالبا الرحمة ومُعاتباً عدم قُدرة تلاميذه على مساعدتهِ، فطلب ربّنا يسوع منه أن يُحضِر الصبي فشفاه، وكشفَ لتلاميذه عن قلّة إيمانهم، والذي صارَ مبعث شكّ للآخرين. لم يتمكنّوا من شفاء الصبي، ولم يتوجهوا، مثل والده، نحو ربّنا لطلبِ العون في مثل هذه الأوقات، بل تركوه يُعاني، أما والد الصبي، فلم يتراجع أمام فشلِ التلاميذ، فبيّن عن إيمان راسخ مُصلياً: "يا ربّ إرحم إبني". آمن أن لربنا يسوع القُدرة على شفاء إبنهِ، فواصل البحث وألحَّ في الطلب حتّى نال ما أرادَ.
نحن مثل والد هذا الصبي، نختبر صعوباتٍ كثيرة، ونواجه تحديّات الإيمان ونريد العون ولا نجدّه، ولكننا مراراً ما نتراجع والحزن يملاء قلوبنا متسائلين: "أين أنت يا ربُّ؟" "ألاَّ ترى ما أعانيهِ من أزماتٍ وصعوبات؟" والد الصبي يُعلّمنا الصلاة الحقيقية في مثل هذه الأوقات: "إرحمني يا رب، فإني عاجز عن فهِم إرادتِك في حياتي. صليبي مُتعِب، فالصعوبات تُحيط بي، وغيابُك يُرهقني، هب لي نعمة الإيمان".
الإيمان قادرٌ على نقل الجبال، ها هي ذي الأم تريزا إنموذجٌ إيمان الذي نقل جبالاً من الألم والعذاب الذي أصاب كثيرين بإيمانها بالله الذي دعاها، وبالمحبّة التي إحتضنت بها المُهَمشين والمعذبين والفقراء والمرضى، ليس فحسب، بل جعلت كثيرين يستيقظونَ على نداء خدمة أفقر الفقراء، فأضحت أم الفقراء. لقد قدمّت لربنا ألم الآخرين وعذاباتهم، فحضيت بنعمة الثبات، فكان لها العون حتّى في الوقت الذي شعرت أنها تعيش في ظلمةِ "الطريق" متسائلةً: "ماذا تُريد منّي يا ربُّ؟" إيماننا قادرٌ على تغيير العالم من حولنا.
ولكن هل تسألنا نحن المسيحيين، تلاميذ ربّنا يسوع عن أثر وتأثير "قلّة إيماننا وضعفِه" في حياة مَن هم من حولنا؟
بعضنا يُفكّر أن الإيمان قضية شخصية: "أنا وربّي"، من دون أن يعي حقيقة أن قلّة إيماننا له أن يُسبب حرجاً وشكوكاً كبيراً لربنا يسوع. والد الصبي له كل الحق في أن يُفكر في مدى مصداقية رسالة ربّنا يسوع، أين قُدرتُكَ في تلاميذَكَ؟ قدّمته إلى تلاميذ فلم يقدروا أن يشفوه، مع أنكَ وهبتَ لهم طرد الشياطين. وهذا يعني، أن ألمَ العالم ليس بسبب غلبة الخطيئة، بل بسبب قلّة إيماننا وتراجعنا أمام الإلتزام بمسؤوليات إيماننا، فالعالم يتألم لأننا كمسيحيين لسنا مؤمنينَ كما يجب. لسنا مؤمنين الى درجة أن نُرضي إلهنا.
لذا فقد ربطَ ربّنا يسوع المسيح الإيمان بالصلاة. فالتلاميذ كانوا واثقين من قدرتهم على شفاء كل الأمراض، حتى أنهم نسوا الله. ظنّوا أنهم قادرونَ على طردِ الشيطان من دون الصلاةِ إلى الله الذي أنعمَ عليهم بهذه الدعوة. الإيمان بالله هو العلاقة مع الله، وهذه العلاقة تحيا بالصلاة إليهِ دوماً واستحضاره في حياتنا. وكثيرة هي المرات التي نتناسى فيها ذكرَ الله مُعتمدين على قوّتنا وذكائنا فحسب. يروي لنا آباؤنا الروحيون أن أباً كان ينظر إلى طفله ِالصغير وهو يُحرّك حجرةً كبيرة وتبيّن أنه غير قادر على ذلك فبدأ بالبكاء! سألهُ أبوه: هل جرّبتَ كلَّ قوتِكَ يا بُني؟ فأجاب الطفلُ: نعم يا أبي! فردَّ أبوه ولكنّك لم تسألني المُساعدة. وصلاتنا هي دعوتنا ليكونَ إلهنا سيّدَ حياتنا دوماً، وإلا فعالمنا سيبقى رازحاً تحت آلام كثيرةٍ.
إيماني يجب أن يكون إلتزاماً حتى المنتهى فأحمل الآخرين إلى ربّنا يسوع، فأكون لهم سنداً وقت الأزمات، وأسعى جاهداً أن لا أكون حجرة عثرة في حياتهِم "فلا نُشككهم". ربّنا ينتظر منّا أن نَعِظَ بمثلِ حياتنا الصالِح، فنكون طريقاً صادقاً للآخرين يحملهم إلى الله. أن نكون مؤمنين بيسوع يعني أن نُفكر مثله، ونشعر مثله، ونسلُك مثله، فشهادة الحياة موعظة حيّة. فلنُصل إلى ربّنا ليرحمنا ويهبَ لنا نعمة الثبات وقتَ التجارب والأزمات، وشجاعة الشهادة له ولحضوره المُحِب، ولا نكون يوماً حجرَ عثرةٍ للقريب بسبب قلّة إيماننا أو ثقل الصليب الذي نحملهُ.
التطويبة الأولى: طوبى لفقراء الروح
فإن لهم ملكوت السموات
لم يعلِن ربّنا يسوع في بدءِ عِظتهِ: "طوبى لمَن يُصلي، أو مَن يصوم، أو مّن يُحسِن إلى الآخرين، أو التقي أو المُتعبِد أو مَن يقرأ الكتاب المُقدس ... فهذه كلّها "أفعال" قيمتُها كامنةٌ في الروح الذي يُحييها. فإن كانت نابعة من "روحِ متكبرٍ ومتعالٍ صارت سبباً للدينونة، وإن كانت نابعة من "روحٍ فقيرٍ"، أضحت بركةً للإنسان. فالروح هو "النَفَس" الذي فيه تنتعِش هذه الأفعال. وسيشرَح ربّنا يسوع لتلاميذه وللجموع أن هناكَ مَن يُصلي ويصوم ويُحِسن إلى الآخرينلا ليُمجِدَ الله الآب، بل ليراه الناس ويمدحوهُ (متّى 6: 1- 18). فوجَّهَ إلى ضرورة أن يكون الصوم صمتَ الجسد وصمتَ الإرادةِ ليخلُقَ فراغاً (من خلال إفراغِ المعدة)، وجوعاً وعطشاً إلى الله.
أفتتح ربّنا يسوع خطبة الجبل بـ: طوبى لفقراء الروح، فإنَّ لهم ملكوتَ السموات"، أناسٌ تحرروا من من كلِّ إرتباطٍ وتعلقٍ ليكونوا متحدين بالله. سعادتهم هي في أن يكونوا مع الله.
مَن هو فقيرُ الرُوح؟
"فقير الروح"، هو الإنسان الذي جعلَ كل إتكالهِ على تدبير الله ورحمتهِ، فبِهِ يتنفس: "فتَحتُ فَمي وتَنَشَّقتُ لأَنَّي إِلى وَصاياكَ تَشوقتُ" (119: 131). ربّنا يسوع اختارَ هذا الموقف الحياتي وجعلهُ طريقاً إلى قلبِ الله. فلم يعد الطريق إليه مُستحيلاً. كُشِفَ لموسى وللشعب في حادثة تقديم "الكلمات العشر"؛ لأن الخطيئة تجعل العبورَ إلى الله مُستحيلاً، ربّنا يسوع أعلنَ أن "الإشتياق إلى الله"، بتواضعٍ وفقرٍ روحي يُوصِل الإنسان إلى الله، وهذا ممكن.
"فقير الروح" هو حالة روحية وليس حالة اجتماعية. هو إنسان سلّمَ كل شيءٍ إلى تدبير الله. إنسانٌ وضعَ رجاءَه في الربِّ فلا يعتمِد على قواه الشخصية، بل مؤمنٌ بالربِ وواثقٌ بصلاحهِ ورحمتهِ. ليس له ممتلكاتٍ يتعلّق بها، ولا شبر من أرض يدعوها مسكنه، ولا مجتمع أرضي يدين له بالولاء المُطلَق بل لا قوة روحية أو اختيار أو معرفة يلجأ إليها بحثا عن العزاء أو الأمان. وإن تملّكَّ شيئا فهو لن يسمحَ لممتلكاتهِ بأن تمتلكهُ، بل يسعى دوماً لأن يكون مُمتلَكاً من قِبلِ الله، جائعاً وعطشاً لأن يعمل إرادته:"طعامي أن أعملَ بمشيئة الذي أرسلني وأُتممَ عملهُ" (يو 4: 34)
"فقير الروح" هو الإنسان المُستعِد لأن يؤمِن ويتحمَل تبعات الإيمان: "فبالنعمةِ نلتُم الخلاص بفضِل الإيمان" (أفسس 2: 8). فالمُبادَرة جاءت من الله، وكان الإيمانُ جواب الإنسان على هذه المُبادَرة. فهو إنسان الإيمان. هو إنسان حُر كلياً أمام الله، لأجله ترك كل شيء وتبع المسيح، وفي سبيل المسيح وفقد كلَّ شيءٍ حتى نفسَه. فلم يعد شيءٌ يمكن أن يأسر قلبه على هذه الأرض، ولن يُحبَ أو يسجدَ إلا للربِ الإله: "ثُمَّ مَضى بِه إِبليسُ إِلى جَبَلٍ عالٍ جدّاً وأَراهُ جَميعَ مَمالِكِ الدُّنيا ومَجدَها، وقالَ له: "أُعطيكَ هذا كُلَّه إِن جَثوتَ لي سـاجداً". فقالَ له يسوع: "اِذهَبْ، يا شَيطان! لأَنَّه مَكتوب: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد وايَّاهُ وَحدَه تَعبُد". ثُمَّ تَركَه إِبليس، وإِذا بِمَلائكةٍ قد دنَوا منهُ وأَخذوا يَخدُمونَه". (مـّى 4: 8-11)
"فقيرُ الروح" هو إنسانٌ لا يفتخِرُ بأعمالهِ وبتقواه أمام الله، ولا يُطالبهُ بأن يُجازيه خيراً لأنه صامَ وصلّى وأكثر الصدقات، مثلما صلّى الفريسي ممجداً نفسهُ ظناً منه أنه يُمجدُ الله، وكشَفَ في صلاتهِ أنه ليس بحاجةٍ إلى الله. إنمّا إنسانٌ ينتظر الله مثل انتظار الأجير أجرَتهِ (أيو 7: 2). فقير الروح إنسانٌ يُريد العيش في جودةِ الله، ولن ينالَ ذلكَ بقواهُ الخاصّة بل برحمة من الله، فيصبِح هو رحيماً مثلُ الله، فالنعمة تجعلهُ قادراً على فعل الخير والصلاح. هو إنسانٌ يُحب ما يُعطيهِ الله، ويقفَ أمامهُ فارغ اليدين، مثلما قالت القديسة تريزة الصغيرة، أيادٍ تُصلي شاكرة وهي مفتوحة للعطاء ومُستعدة لتقبل من جودِةِ الله. فهو لا يدعي صلاحاً أو خيراً، بل هو واعٍ لفقرهِ ومحدوديتهِ، وفراغهِ مثل الأرض التي تنتظر البذار من الزارِع ليُباركها بثمرٍ وحصادٍ وفير.
"فقيرُ الروح" هو إنسانٌ يُعرِف أنه صغيرٌ جداً، يحتاج إلى عونِ الله، لأنه ضعيفٌ ومعوز، إنسان لا يبحث عن السُلطة والسيطرة على الآخرين، إنسانٌ يشكرُ الله على كلِّ هباتهِ، وإذا إغتنى فغناه لن يأسرهُ بل سيبقى حُراً تجاه ما يمُلك. ويتعامَل مع الأشياء بقناعةٍ وإعتدالٍ مبتغياً حياة البساطة من دون تملكٍ مفرِط أو هدرٍ للخيراتِ. كان القديس فرنسيس الأسيزي يقول لإخوتهِ، كُنتُ عندما أطلبُ الصدقة، أخذ أقل مما أنا بحاجةٍ إليهِ، لئلا يُحرَم فقراء آخرون منها".
"فقيرُ الروح" إنسان يعرِف أن يُبارِك؛ لأنه يقفُ أمام الله بيدين مبسوطتين وبقلبٍ مُنفتح ينتظر أن يُبارَكَ. فعندها فقط يُمكن أن تُباركَ إذا عرفت أنك بحاجة إلى المُباركة. فينا قلب مُتكبر لا يريد أن يُبارِك (الله والآخرين)؛ لأنه يقول: لي ما يكفيني. فينا رغبةٌ في السيطرة على كلِّ شيءٍ، لاسيما في عصرنا الحالي الذي فيه يريد الإنسان أن يُسيطرَ على كل شيءٍ، فالسعادة لن تتوقف على التملُكِ والحصول على المزيد، بل على المحبة والعطاء وبذلِ الذات، على مثالِ الرب يسوع.
يسوع المسيح، فقيرُ الروح
"فقيرُ الروح" هو ربّنا يسوع المسيح، الذي لم يرغب في أن يمتلِك بيتاً أو أرضاً أو كرماً، ولا مالاً أو مُقتنيات، بل كان مُكرساً كلياً لله، وحُراً للرسالةِ. عانى من الجوع والعطش والحرمان والتعب. كان فقيراً إجتماعياً، لم يكن له عشيرةٌ تدعمهُ أو حلقة أصدقاء تسندهُ وقتّ الشدّةِ، حتّى جماعة التلاميذ تخلّت عنه وقت المُحاكمة والصلب. كان فقيراً إذ أخلَى ذاتهُ وصارَ إنساناً متجرداً من مجدِ الألوهةِ. فلم يبحثِ عن "شُهرةِ"، بل كان يُوصي الذين يشفيهم بعدم الحديث علناً عن شفائهم.
فقير الروح هو ربّنا يسوع المسيح، أُنموذج التطويبات، وقد جسّدها في كل تفاصيل حياتهِ، لاسيما في بستان الزيتون حيث جثا مُصليا: "يا أَبتِ، إِن أَمكَنَ الأَمْرُ، فَلتَبتَعِدْ عَنِّي هذهِ الكَأس، ولكن لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء!" ... ثمَّ مَضى ثانيةً وصلَّى فقال: "يا أَبَتِ، إِذا لم يَكُنْ مُمكِناً أَن تَبتَعِدَ عَنِّي هذِه الكَأسُ أَو أَشرَبَها، فَليَكُنْ ما تَشاء" (متّى 26: 39- 42). لم يرغب ربّنا يسوع في كأسِ الألم، لم يرغب في أن يكون مُهاناً أو مُضطَهَداً، ولكنه أرادَ أن يكون أميناً للبُشرى السارة التي عاشها. "لا كما أنا أشاءَ، بل كما أنت تشاءَ"، هذا هو فقيرُ الروح. ففي عمقِ كيانهِ أرادَ ربّنا يسوع ما أرادهُ الله، فكان كلياً لله، ولله وحدهُ. وماالذي يُريده الله من الإنسان وللإنسان؟ يُجيبُ ميخا النبي: "قد بَيَّنَ لَكَ أَيُّها الإِنسانُ ما هو صالِح وما يَطلُبُ مِنكَ الرَّبّ. إِنَّما هو أَن تُجرِيَ الحُكْمَ وتُحِبَّ الرَّحمَة وتَسيرَ بِتَواضُعٍ مع إِلهِكَ" (ميخا 6:8).
ربّنا يسوع لم يُمجد حالة الفقرِ المادي إذاً، فالفقر المادي الخالِص لا يُخلَّص، على حدّ تعبير البابا بندكتُس السادس عشر. ربّنا يسوع أحبَّ الفقراء لا فقرهم. هناك فقراء يائسون من رحمةِ الله، ويتملّكهُم الغضبُ من الداخل؛ لأنهم يعتقدون أن الله غير مُهتمٍ بهم، بل نسيَهم، ويشتهون مقتنى الآخرين. وعبّر كاتب سفرِ الأمثال عن ذلك في طلبهِ: "شَيئَينِ سَأَلتُكَ فلا تَمنَعْني إِيَّاهما قَبلَ أَن أَموت: أَبعِدْ عنِّي الباطِلَ وكَلامَ الكَذِب، لا تُعطِني الفَقرَ ولا الغِنى بلِ اْرُزقْني مِنَ الطَّعام ما يَكْفيني لِئَلاَّ أَشبعَ فأَجحَدَ وأَقوَلَ: "مَنِ الرَّبّ؟" أَو أَفتقر فأَسرِق وأَعتدي على اْسم إِلهي" (أم 30: 8- 9).
ففقرُ الروح يتطلب زُهداً، والزهد لن يكون بلعنةِ الخليقة التي باركها الله ورأى أن كلَّ شيءٍ حسنٌ جداً (تك 1: 31)، بل، في موقف التحرر من الممتلكات وعدم التعلّق بها. مثلما صلّى أيوب: "الربُّ أعطى والربّ أخذ، فليكن إسم الربِّ مُباركاً" (أيو 1: 21). فالممتلكات هي للخدمة ليتمكّن الجميع من العيش برفاهيةٍ. وهذا هو المفهوم الأصح للفقر بالمعنى الديني، الفقرُ الذي يختارهُ الإنسان من أجل تحقيق هدفٍ سامٍ: "إفتقرَ وهو الغني لتغتنوا بفقرهِ" (2 كور 8: 9). أفتقرَ ربّنا يسوع محبةً بالإنسان وليس حُباً بالفقرِ. فالفقرُ الاختياري (الروحي) ليس إنغلاقاً على الذات، بل هو انفتاح على الجميع، لاسيما على الفقراء والمعوزين، هو إنطلاقةٌ وليس محطةُ وصولٍ، فيهِ إختارَ الإنسان الفقرَ نتيجةَ فعلِ الله المُحِب في حياتهِ.
ملكوتُ الله
ملكوت الله فعلٌ يقوم فيه الملكُ بفعلِ التملِك على شخصٍ أو شي. ملكوت الله يعني تدخل الله الحاسِم في التاريخ الإنساني، إذ يأتي ليملُكَ على البشرية جمعاء، ويُمارِس سلطتهُ. ملكوت الله هو إعلانٌ لسيادةِ الله على الحياة، فهو ليس مكاناً نذهُب إليه، بل هو حضورُ الله الفاعِل في الحياة والذي صارَ لنا نعمةً بيسوع المسيح. محبّةٌ تُريد خلاصَ الإنسان وتحريرهِ من كل ما يجعله يقف مُكرَماً أمام الله، ويدعوه ليدخلَ في شِركةٍ معه: "خذوا كلوا ... خذوا إشربوا".
هذا الحضور يتطلّبُ تجاوباً من الإنسان، أن يُهيئ له مكاناً في حياتهِ لينمو ويُثمرِ، ليملُكَ الله. فعندما بشرَ ربّنا يسوع بملكوت الله (السموات)، فهو كان "يُبشِر بكل بساطة بالله، أي بالإله الحي القادِر على أن يعمَل واقعياً في العالم وفي التاريخ، والذي يعمل فيهما الآن بالتحديد ... أي إنهُ يُمسِك بزمام العالم بين يديهِ ... إن الله يعملُ الآن" (بندكتُس السادس عشر).
هذا ما يُبشِر به فقير الروحُ في حياتهِ: الله هو السيّد وهو الربُّ الأوحد: "أَنا الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذي أَخَرجَكَ مِن أَرضِ مِصرَ، مِن دارِ العُبودِيَّة. لا يَكُنْ لَكَ آِلهَةٌ أُخْرى تُجاهي" (خر 20: 2- 3). كان ربّنا يُصلي يومياً: "إسمعَ يا إسرائيل، إنَّ الربّ إلهنا هو ربٌّ واحد. فأحبب الربّ إلهَك بكل قلبِك وكلّ نفسِكَ وكل قوّتك" (تث 6: 4-5). هذه لم تكن كلماتُ صلاة فحسب، بل مسؤولية عليه أن يلتزِم بها في حياتهِ ويشهَد لها في سلوكه اليومي، فجعلَ حياتهِ كلّها مجالاً لله. وإعلاناً لسيادتهِ وربوبيتهِ. ففي موقف "فقير الروح" يختبِر الإنسان مفاعيل ملكوت الله في حياتهِ؛ لأن الملكوت بدأ في هذا الإنسان، فقير الروح. قلبه فارغ ومُستعدٌ ليكون وحدهُ، ويملك عليه ملكاً أوحد. فهل يستطيع الله أن يملأ شخصاً يكون مليئاً ومتخماً؟!
هذا الموقف الشخصي موقف منفتحٌ على الآخرين وهو موقف إرسالي في الوقتذاته. هناك فقراء لا يملكون بيوتاً أو عقارات أو تجارةٍ، لا يشعرون بحاجةٍ؛ لأن محبّة "الجماعة" قد غمرتهم. هذا هو واقع الملكوت الذي تعيشهُ "كنيسة المسيح، جسدهُ السرّي". فالمُمتلكات لن تكون "إلهاً" يُعبَد وطموحاً لفقير الروح، بل فرصة لتحقيق ملكوت الله، ملكوت العدالة والتضامُن مع الآخر المُحتاج، من أجل تعزيز "كنيسة المسيح" وتثبيتها. "وكانَ جَميعُ الَّذينَ آمنوا جماعةً واحِدة، يَجعَلونَ كُلَّ شَيءٍ مُشتَرَكًا بَينَهم، يَبيعونَ أَملاكَهم وأَمْوالَهم، ويَتَقاسَمونَ الثَّمَنَ على قَدْرِ احتِياجِ كُلٍّ مِنْهُم" (أع 2: 44- 45). لقد عاشت الكنيسة الأولى ما أرادهُ الله من شعبهِ:
"إِذا كانَ عِندَكَ فقيرٌ مِن إِخوَتكَ في إِحْدى مُدُنِكَ، في أَرضِكَ الَّتي يُعْطيكَ الرَّب إِلهُكَ إِيَّاها، فلا تُقَسِّ قَلبَكَ ولا تَقبِضْ يَدَكَ عن أَخيكَ الفَقير، بلِ افتَحْ لَه يَدَكَ وأَقرِضْه مِقْدارَ ما يَحْتاجُ إِلَيه. واحذَرْ أَن يَخطُرَ في قَلبِكَ هذا الفِكْرُ التَّافِه، فتَقول: قد قَرُبَتِ السَّنةُ السَّابِعة، سَنةُ الإِبْراء، فتَسوءَ عَينُكَ إِلى أَخيكَ الفَقيرِ ولا تُعطِيَه شَيئًا، فيصرُخُ إِلى الرَّبِّ علَيكَ وتَكونُ علَيكَ خَطيئَة. بل أَعطِهِ، ولا كَرْهًا إِذا أَعطَيتَه، وبِذلك يبارِكُكَ الرَّبّ إِلهُكَ في كُلِّ أَعْمالِكَ وفي كُلِّ مَشاريعِكَ. إِنَّ الأَرضَ لا تَخْلو مِن فَقير، ولذلِكَ أَنا آمُرُكَ اليَومَ قائِلاً: اِفتحْ يَدَكَ لأَخيكَ المِسْكينِ والفَقيرِ الَّذي في أَرضِكَ. (تثنية 16: 7- 11)
أسئلة للتأمل الشخصي:
التطويبات
حياة أبناء الملكوت
المُقدمة
التطويبات: نَفسُ الله في حياة الإنسان، ودعوة من الله إلى الإنسان ليعيش حياة الإلوهةِ: "فكونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل" (متّى 5: 48). فالتطويبات تكشِفُ عن عظمةِ عمل الله في الإنسان مثلما أعلنَت أمنا مريم: "سَوفَ تُهَنِّئُني بَعدَ اليَومِ جَميعُ الأَجيال لأَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة: قُدُّوسٌ اسمُه" (لو 1: 48- 49).
التطويبات: كشفٌ من ربّنا يسوع لحالة "أبناء الملكوت": هنا والآن. تهنئةٌ يُقدِمها لمَن إختارَ "مواقف حياتية متمايزة عن الآخرين". لكلِ مَن اختار توجهاً في حياتِه يُعجّل مجيء ملكوت الله على الأرض. أُناس وجدوا السعادة لا في ما يملكون بل في الله. لا في المكانة المتميّزة التي يسعون للحصول عليها، بل في الكينونة مع الله.
التطويبات: تُعلِن أيضاً عن حقيقة حياة تلميذ ربّنا يسوع، ما الذي سيُعانيهِ التلميذ في حياتهِ عندما يُكرِس حياتهُ كلّها للرسالة ويُضحي بكلِ شيء من أجل المسيح، الذي وجدَ فيه الحياة: "فما أنا أحيا بعد اليوم، بل المسيح يحيّا فيَّ" (غلا 2: 20).
لا تَعِد التلميذَ بمُستقبلٍ أفضل من الحاضِر، بل تصفُ الحاضر الذي يعيشه: هو تلميذٌ فقير ولكنهُ مُبارَك. مُضطهدٌ ولكنه ليس هالكاً. تلميذٌ يعيش فرح العلاقة مع الله، تلميذٌ سمحَ للمسيح يسوع المرفوض والمُعذَب والمرفوع على الصليب، أن يُواصِل حياته فيه ومن خلالهِ: "ما زلنا نُسلَم إلى الموت لتظهَر في أجسادنا الفانية حياة المسيح" (2 كور 4: 11). وهي تكشِف لنا في الوقتِ ذاته عن وجود علاقة متميّزة بين التلميذ والمسيح.
التطويبات: دعوة من ربّنا يسوع إلى تبني أسلوب حياة شخصي يعمَل على تغيير واقع الحياة من حولنا، حياة التسلّط والتملُك والقوّة والجشع والبحث عن الشهرة والصيت الحسَن. لم يقصد ربّنا أن يعزل الإنسان بعيداً عن الآخرين في تعبّد شخصي لله، بل ليُؤَسِسَ الإنسان حياتهُ على الله، ويعمَل على إحداث إنقلاب جذري في حياة الجماعة التي يتقاسم معها العيش.
للتطويبات رسالة لنا اليوم، وسنتأمل التطويبات الثمانية مثلما قدّمها متّى الإنجيلي، وسنسأل أنفسنا: كيف يُمكننا أن نعيش هذه التطويبات في واقع حياتنا اليوم؟
إستهلَ متّى إذاً عظة ربّنا يسوع على الجبل بالتطويبات:
فلمَّا رأَى الجُموع، صَعِدَ الجَبَلَ وَجَلَسَ، فدَنا إِلَيه تَلاميذُه فشَرَعَ يُعَلِّمُهم قال:
"طوبى لِفُقراءِ الرُّوح فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات.
طوبى لِلوُدَعاء فإِنَّهم يرِثونَ الأَرض.
طوبى لِلْمَحزُونين، فإِنَّهم يُعَزَّون.
طوبى لِلْجياعِ والعِطاشِ إِلى البِرّ فإِنَّهم يُشبَعون.
طوبى لِلرُّحَماء، فإِنَّهم يُرْحَمون.
طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله.
طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون.
طوبى لِلمُضطَهَدينَ على البِرّ فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات.
طوبى لكم، إِذا شَتَموكم واضْطَهدوكم وافْتَرَوْا علَيكم كُلَّ كَذِبٍ مِن أَجلي،
اِفَرحوا وابْتَهِجوا: إِنَّ أَجرَكم في السَّمَواتِ عظيم، فهكذا اضْطَهدوا الأَنبِياءَ مِن قَبْلِكم.
السياق العام للتطويبات
حسب متّى الإنجيلي
استهل ربّنا يسوع عِظَتَه على الجبل بالتطويبات. وتُقسم على مجموعتين: الأربع الأولى تخصّ علاقتنا بالله، والأربع الثانية تخصُّ علاقتنا بالقريب، وهي موجهةٌ في صيغة الغائب: "طوبى لـِ ..."، ويُضاف إليها تطويبةٌ تاسعة مُوجهةُ في صيغة المُخاطَب: "طوبى لكم ..."، تُعد تواصلاً للتطويبة الثامنة، مثلما سنرى.
تبدأ كلتا المجموعتين بكلمةِ: "مكاريوس" التي تُرجِمتَ الى كلمة "طوبى"، وهي كلمة آرامية تعني "هنيئاً، مُباركٌ" "كم هو محظوظٌ" وكانت لفظة(مكاريوس) تُطلَق حسب الآداب اليونانية على الآلهة؛ لأنهم يتمتعون بحياة متميزة عن الإنسان. فهم خالدونَ وأحرار من الألم والحُزنِ والموت. وإذا كان الإنسان محظوظاً في الحياة فسيكون غنياً ويستمتِع بحياة مترفةٍ، وهذا "التميُّز" هو لقلةٍ من الناس.
وردت عبارة "طوبى" 9 مراتٍ إشارةً إلى أولئكَ الذين يعيشون حياتهُم على وفقَ قلبِ الله؛ لذا يرى الله حياتهم بعيون الرضا (يُصادِق على أسلوب حياتهِم)، مثلما فعلَ في الخلقة: "ورأَى اللهُ جَميعَ ما صَنَعَه فاذا هو حَسَنٌ جِدًّا" (تك: 31). فأصل العبارة "طوبى" ينبَع من عبارة "حسَن: طوف: طاوا"، التي يقولها الله فاعلاً. فالبركة هي من الله، الذي ينجز البركة، ويُبارِك الوالدين وأصحاب السلطة. أما الطوبى فيلفظها الإنسان مُمجِّداً ما هو حسَن في حياة إنسان آخر. فما قام به ربّنا يسوع هو: أنه أعلنَ أن الأكثرية التي تُعاني من الفقر والألم والرفضَ بسبب اختيارها له، ومن ثُمَّ إلتزامها بمواقف حياتية لتصل إلى الله الحق، هم "مُباركونَ ومحظوظون"، مع أن اختيارهم يتضمّن الرفض والإضطهاد: الصليب. ربّنا أعلَن أن الطريق إلى الله هو طريق الصليب؛ لأنه طريق المحبّة. فمَن يحيا التطويبات يقتدِي بالله، الله المحبّة.
الطوبى إذاً هي لأناس اختاروا أن يُؤسسوا حياتهُم على الله، وهم يعلمون أنها ستكون صعبة بل مُؤلِمة على حدِّ تعبير بولس:
"فإِنَّنا لا نَجعَلُ لأَحَدٍ سَبَبَ زَلَّة، لِئَلاَّ يَنالَ خِدمَتَنا لَوم، بل نُوَصِّي بِأَنفُسِنا في كُلِّ شَيءٍ على أَنَّنا خَدَمُ اللهِ بِثَباتِنا العَظيمِ في الشَّدائِدِ والمَضايِقِ والمَشَقَّات والجَلْدِ والسِّجْنِ والفِتَن والتَّعَبِ والسَّهَرِ والصَّوم، بِالعَفافِ والمَعرِفَة والصَّبرِ واللُّطْفِ، بالرُّوحِ القُدُسِ والمَحبَّةِ بلا رِياء وكَلِمَةِ الحَقِّ وقُدرَةِ الله، بِسِلاحِ البِر، سِلاحِ الهُجومَ وسِلاحِ الدِّفاع، في الكَرامةِ والهَوان، في سُوءِ الذِّكْرِ وحُسنِه. نُحسَبُ مُضِلِّينَ ونَحنُ صادِقون، مَجهولِينَ ونَحنُ مَعروفون، مائِتِينَ وها إِنَّنا أَحياء، مُعاقَبينَ ولا نُقتَل، مَحْزونينَ ونَحنُ دائِمًا فَرِحون، فُقراءَ ونُغْني كَثيرًا مِنَ النَّاس، لا شَيءَ عندَنا ونَحنُ نَملِكُ كُلَّ شيَء". (2 كور 6: 3- 10)
الجبل: كرسي المُعلم
صعدَ ربّنا يسوع الجبل وجلسَ قريباً من حلقة التلاميذ والجموع الكثيرة من حولهم. فأول ما نتعلّمه عن التطويبات هو إنها موجهةٌ إلى حلقة التلاميذ، أولئِكَ الذين اختارهُم ربّنا يسوع وتبعوهُ عن قُربٍ. أُناس مسّهُم حضور الابن وإستجابوا لمُتطلباته: "فتَركا الشِّباكَ مِن ذلك الحينِ وتَبِعاه" ... فَتَركا السَّفينَةَ وأَباهُما مِن ذلك الحينِ وتَبِعاه" (متّى 4: 20- 22). إستجابتهُم لدعوتهِ جعلتهُم أُناساً فقراء يُعانون من العوز والحرمان والإذلال والرفض والعُزلةَ، وهذا يجعلهم مؤهلينَ للطوبى، لا بسبب فقرهم بل بسبب دعوةِ الله لهم بيسوع المسيح، وفي اتِّباعهِم له، ففقدوا كلَّ شيءٍ حتّى أنفسهُم. فإذا تمكّنَ التلاميذ، بنعمةِ الله، من الإستجابة لهذه الدعوة، فهذا يعني أن بإمكان الجموع الكثيرة التي تبعِت يسوع أن تتخذَ القرار نفسه، فالجميع مدعوون إلى أن يكونوا كما أرادهم الله (بونهوفر).
ربّنا لم يُلقِ خُطبة حكمية أو تعاليمَ عامّة، بل وجهّ الكلام إلى الذين قرروا أن يعيشوا الكلمة ويؤسسوا حياتهم عليها: "فمَثَلُ مَن يَسمَعُ كَلامي هذا فيَعمَلُ به كَمَثَلِ رَجُلٍ عاقِلٍ بَنى بيتَه على الصَّخْر. فنزَلَ المطَرُ وسالتِ الأَودِيَةُ وعَصفَتِ الرّياح، فَثارت على ذلكَ البَيتِ فلَم يَسقُطْ، لأَنَّ أساسَه على الصَّخر" (متّى 27: 24- 25). وهكذا يُبنى بيت التلمذة: بالإصغاء والعمل بالكلمة.
تؤمِن هذه الجماعة (جماعة التلاميذ)، مثلما نؤمِن نحن، بأن ربّنا يسوع هو كلمةُ الله، وهو الذي يُفسِر الشريعة ويُعطيها عمقها ويوليها الحياة؛ لأنه هو المُشرِع؛ لذا، لم يقف متّى عند ضجيج العداوة والخصام الذي نشأ في الكنيسة الأولى بين اليهود والوثنيين، بل دعاهم إلى الإصغاء إلى صوت كلمة الله، يسوع المسيح، الذي أرادَ أن يُنشئ تلاميذه، الكنيسة، على نحوٍ خاص، لخيرهم الشخصي، ولخير العالم كلّهِ.
هذه التنشئة تطلّبَت شكلاً من الإنسحاب من ضجيج أورشليم ليكونوا وحدهم: السماء والأرض والمُعلّم، تماماً مثلما فعلَ الله مع شعبهِ إذ أخرجهم من مصرَ العظيمة ليختلي معهم في البرية. الصعود إلى الجبل يُعيد إلى الذاكرة صعود موسى إلى جبل الله ليقبَل "الكلمات العشر" من الله، فقدّم متّى ربّنا يسوع مثل موسى الجديد، بل أعظم. فالفعل: "جلسَ" يُشير إلى سُلطان إلهي، بخلاف موسى والشعب الذين وقفوا يسمعون (خر 19: 16)، فجاء تعليمهُ مختلفاً عن تعليم الآخرين: إنه تعليمٌ ذو سُلطانٍ، وليس مثل الكتبةِ والفريسيون: "ولمَّا أَتَمَّ يسوعُ هذا الكَلام، أُعجِبَتِ الجُموعُ بتَعليمِه، لأَنَّه كانَ يُعَلِّمُهم كَمَن لَه سُلطان، لا مِثلَ كَتَبَتِهم". تعليمهُ جاء مُباشراً: "فشَرَعَ يُعَلِّمُهم قال ..."، ليس لدينا أي إشارة إلى أن ربّنا يسوع كان ينقل رسالةً أو تعليماً: "وكلّمَ الله ... هذا ما تكلّم به الربُّ ..."، لدينا تعليم مُباشر، فلم يعدُ الله يُكلِّم الناس عبرَ وسيط، موسى أو الأنبياء، بل صارَ يُحدثهم على نحو مُباشر بيسوع المسيح، المُعلِم الأوحد: "سمعتُم أنه قيل للأولين ...أما أنا فأقولُ لكم".
بجلوسهِ إذاً كشفَ ربّنا يسوع عن نفسهُ مُعلماً، وشكّل حلقة تعليمية هو مركزها، حلقةً مفتوحةً لكل مَن يُريد الإنضمام إليها، حيث قدّم "كلمة الله الجديدة" التي تُكمِل ما قدّمهُ بوساطة موسى، فالمعلمُ الأوحد يعرِف ما الذي يجول في فكرِ الله، وكيف يرى الله الإنسان والعالم. لقد أعطى الله كلماته العشر، التي أدانت الخطيئة، وسطَ البرق والرعود، بينما أعلنَ ربّنا يسوع دعوتهُ إلى المحبة الكاملة، فأكملَ الشريعة والأنبياء لأنه تحدّث من قلبهِ الإلهي إلى قلبِ الإنسان، فلم تعد كلمتهُ على الحجر، بل أصبحت في القلب:
"ها إِنَّها تَأتي أَيَّام، يقولُ الرَّبّ، أَقطعُ فيها مع بَيتِ إِسْرائيلَ (وبَيتِ يَهوذا) عَهداً جَديداً، لا كالعَهدِ الَّذي قَطَعتُه مع آبائِهم، يَومَ أَخَذتُ بِأَيديهِم لِأُخرِجَهم مِن أَرضِ مِصْرَ لِأَنَّهم نَقَضوا عَهْدي مع أَنِّي كُنتُ سَيِّدَهم، يَقولُ الرَّبّ. ولكِنَّ هذا العَهدَ الَّذي أَقطَعُه مع بَيتِ إِسْرائيلَ بَعدَ تِلكَ الأَيَّام، يَقولُ الرَّبّ، هو أَنِّي أَجعَلُ شَريعَتي في بَواطِنِهم وأَكتُبُها على قُلوبِهم، وأَكونُ لَهم إِلهاً وهم يَكونونَ لي شَعباً. ولا يُعَلِّمُ بَعدُ كُلُّ واحِدٍ قَرببَه وكُلُّ واحِدٍ أَخاه قائِلاً: "اِعرِفِ الرَّبّ"، لِأَنَّ جَميعَهم سيَعرِفونني مِن صَغيرِهم إِلى كبيرِهم، يَقولُ الرَّبّ، لِأَنِّي سأَغفِرُ إِثمَهم ولن أَذكُرَ خَطيئَتَهم مِن بَعدُ. (إرميا 31: 31- 34).
فالتطويبات ليست مثل الكلمات العشر "مُحرمات"، تُطالِب الإنسان بإلتزام حدود الطاعّة لله، بل دعوة لعيش خبرة الحُب الإلهي، خبرة القلبِ المُحِب, دعوة للإنسان الفقير ليكون مثل الله، "صارَ الكلمة إنساناً ليصيرَ الإنسانً إلهاً" (القديس أثناسيوس والقديس إيريناوس). إنسان ملكوت الله، إنسان العهد الجديد الذي يعيشَ حسبَ قلب الله، قلب ملؤه الحُب، قلب يدعو الإنسان ليكونَ مثل الله الذي اختارَ أن يكون إلى جانب الإنسان الفقير والمعدوم والمُهَمَش. إنه قلبٌ يُريد أن ينفُخ في العالم حياة الله، حياة المحبّة. الحياة التي تهبُ الإنسانَ السعادة الحقّة؛ لذا، فالتطويبات تصفُ حالة التلاميذ، عائلة الله: هم فقراء وجائعونَ وباكون ومُبغضونَ ومُضطهدونَ، لكنهم مُباركونَ وسعداء في الآب. هنا يُكمِل ربّنا يسوع الشريعة والأنبياء: "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل". (متّى 5: 17) فالحُب هو إتمامٌ الشريعة"، "أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة:أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً. إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي" (يو 13: 34- 35).
فمن أجل أن نفهَم معنى التطويبات يجب أن نضعَ نُصبَ أعيننا أن ربّنا يسوع هو المُعلِم وهو المُفسِر للتعليم، وأفضل تفسير لتعليمهِ هو حياتهُ. "لقد أفتقرَ لأجلكُم، وهو الغني، لتغتنوا بفقرهِ" (2 كور 8: 9). لقد أعلنَ ربّنا يسوع "التطويبات" وفيها كشفَ عن أسلوبَ حياتهِ؛ لأنه يعمَل قبل أن يُعلِّم: "وأَمَّا الَّذي يَعمَلُ بِها ويُعَلِّمُها فذاكَ يُعَدُّ كبيراً في ملكوتِ السَّمَوات" (متّى 5: 19). فهو أول مَن عاشَ التطويبات. إنّه الفقير الذي لم يكن له مسند رأسٍ يتكأ عليه (متّى 8: 20)، والوديع والمتواضع القلب (متّى 11: 20)، وصانعُ السلام.
ربّنا يسوع لم يتجسّد ليكون مع الإنسان في ألمهِ ومعاناتهِ وصراعاتهِ فحسب، بل ليُغيّر هذا العالم. روحُ الربّ كانت عليه ومسحتهُ (ماشيحا) من أجل رسالةٍ، وهي: "روحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَليَّ لِأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنى وأَرسَلَني لِأُبشِّرَ الفُقَرء وأَجبُرَ مُنكَسِري القُلوب وأُنادِيَ بِإِفْراجٍ عنَ المَسبِيِّين وبتَخلِيَةٍ لِلمَأسورين لِأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرّبّ وَيومَ آنتِقام لِإِلهِنا وأُعَزِّيَ جَميعَ النَّائحين. لِأَمنَحَهمُ التَّاجَ بَدَلَ الرَّماد وزَيتَ الفَرَحِ بَدَلَ النَّوح وحُلَّةَ التَّسْبيحِ بَدَلَ روحِ الإِعْياء فيُدعَونَ بُطْمَ البِرّ وأَغْراساً لِلرَّبِّ يَتَمَجَّدُ بِها" (إش 61: 1- 3). وأرسل إلى يوحنّا في سجنهِ قائلاً له: "اِذهبوا فَأَخبِروا يُوحنَّا بِما تَسمَعونَ وتَرَون: العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون، وطوبى لِمَن لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثْرَة" (متى 11: 4- 6).
سيتعلّم القديسون هذه الحقيقة ويسعون لعيشها، ليكونوا هم بشهادة حياتهم تفسيراً حياً للكتاب المُقدس؛ لأنهم عاشوا هذه الكلمة بكل كيانهِم، وتمكنوا من تغيير العالم من حولهم، كلٌّ على وفق ما وهبَه الله من هباتٍ.
الأحد الثالث من إيليا
لا للكسل والتراخي (متى 13: 24- 43)
"ولمّا نام الناس جاءَ عدّوهُ وزرعَ زواناً في وسط القمحّ"ِ.
يقول المُزمّر إن الله "لا ينام ولا يَوسِن" (مز 121: 4)، وكذلِك الإنسان الذي يبحث عن إتمامِ إرادة الله في حياتهِ ليجعلَ حضورهُ واقعا ملموساً، فهذا الإنسان لن يهبَ لعينهِ نوماً (مز 132: 4- 5)، وهو ليس مثل الإنسان الكسول الذي لا يُفارِق سريرهِ فيقع في العوز (أمثال 6:: 6- 11)، أو مَن يتهّرب من تحمل مسؤولية دعوته مثل يونان النبي (يونان 1: 5)، وإيليا (1 ملوك 19: 4- 8)، أو الرُسل الثلاثة الذين اختارهم ربّنا يسوع ليرافقوه عندما كان يُصلي في بستان الزيتون (مر 14: 34، 37، 40).
هكذا، وبينما الناسُ نيامٌ جاء العدو وزرعَ الزؤان وسط الحقل ومضّى، وعوضَ أن يُقدِم عبيد ربّ البيت إعتذاراهم وتأسفهم على أنهم لم يسهروا ليحرسوا الحقل، جاؤوا يُلقونَ اللومَ على سيّدهم قائلين: "لم يكن زرعاً جيّداً الذي زرعتَ". وكشفَ ربُّ البيت عن طيبتهِ فلم يُحاسبهُم على كسلهم وإهمالهم أو على إفتراءهم، فكان مُحباً ليس فحسب، بل صبوراً فطلبَ منهم أن يتريثوا فيما هم مزمعونَ عليهِ: "دعوهما ينميان كلاهما معاً".
جميعاً يسأل: "إن كان الله قد خلق الأرض والإنسان بشكل حسن، فمن أينَ الشر؟
ويُجيبُ ربّنا يسوع: عندما يغفلُ الإنسان وينام ولا يتحمّل مسؤوليتهُ في أن يحرُسَ الأرضَ، عندها يغيبُ الخير وينتشّر الشر على الرُغم من أنه لن ينتصّر. الكسل والتراخي تجربةٌ تتحدّى الإنسان، وسيكون سبب فساد القمحِ الصالِح، لذا، وجبَ السهر واليقظة دوماً لئَلا يفسدَ الخير الذي زرعهُ الله في فينا.
ولعّل أعظم التجارِب التي تتحدانا هي تجربة الدينونة والحكم على الآخرين مثلما أقترح العبيد: "أتُريد أن نذهبَ ونجمعهُ؟" فينا جميعاً هذه الرغبة في تطهير العالم من الفاسدين والمفسدينَ إنطلاقاً من أحكامنا، فنتعجّل الأمور، ونحكمُ على الناس مما يبدو عليهم في الظاهِر. ربّنا يُعلّمنا اليوم قائلاً: "تمهلوا واصبروا إلى يومِ الحصاد، يوم الدينونةِ". إلهنا إلهُ صبور طويل الآناة وكثير الرحمة ويعطي الفرصة الثانية والثالثة ليتوبَ الإنسان ويعودَ إليه. صبرُ الله يعني إنتظاره توبة الإنسان وعودتهِ إليه، فإذا كان الله ينتظر الإنسان، تُرى ما الذي ينتظره الإنسان في حياتهِ؟
نحن مسيحيون، يعني إننا حُراسُ العالم ليبقَ حسناً، نحن ملحهُ ونورهُ. هذه الحراسة تتطلّب منّا اليقظة والتنبّة وتعلّم الإنتظار. الإنسان يعتقد متوهماً أن بإمكانهِ أن يصنعَ كلَّ شيءٍ، لذا، لم يعد ينتظر من الله شيئاً، ولكنه سُرعان ما يتفاجئ بمُباغتةِ العدو له، فيُفسِد حياتهُ.
هناك زؤوان كثير زُرِعَ في حياتنا وفي قلوبنا من جراء كسلنا وتراخينا، ونحن مدعوون اليوم لأن نتحلّى بالشجاعة ونُقِرَ بوجوده وبمسؤوليتنا الكاملة عنهُ. ربّنا يدعونا لأن نسأل أنفسنا: "أوَ لم نسمحَ بتراخينا وكسلنا للعدو لأن ينسلَ بيننا ويزرعَ سمومهُ في قلوبنا وفي عوائلنا وكنائسنا؟ ألم نسمح له بإنشغالنا عن عوائلنا بأن يزرعَ أفكاره الخبيثة في عقول أبناءنا؟ إهتمامنا بأنفسنا جعلنا أنانيين لا نُفكِر إلا في راحتنا فصرنا نسمعُ تلَك الأصوات التي "تهمُس" في آذاننا: ما نفعُ الإيمان وما نفعُ الكنيسة؟
لربنا يسوع بشارة اليوم، فهو لا يُقول لنا كيف يُمكن القضاء على الشر، بل يُبشرنا: مَن هو إلهنا وخالقنا الذي نعبدهُ؟ هو الله محبّة، ولأنه محبّة فهو إله الإنتظار والصبر والغفران، صحيح إن الزؤوان لن يُصبحَ قمحاً جيداً، ولكن الإنسان الخاطئ يُمكن أن يُصبحَ قديساً، وإن في تاريخ الكنيسة أمثلة كُثر. إلهنا يعرِف خفايا القلوب ويفهَم ضعفنا وعنادنا، وهو يعرِف أن فيها بصيصٌ من الخير له أن ينمو بالمحبّة. لذا، ينتظر إستيقاظنا.
ولربنّا بشارة أخرى، فواقع الملكوت سينمو ويعظم ويتغلّب على الشّر، فقداسة شخص واحد لها أن تُغيّر حياة كثيرين، هي مثل حبّة الخردل والخميرة التي تُخمّر العجينة كلّها. وعلينا أن لا نيأس من هولِ الشرِ وجسامة الخطيئة في العالم، بل، ننفتح لنعمة الله المُخلِصَة.
فعلى خُطى التلاميذ لندخل مع ربّنا يسوع إلى البيت، ولنسألهُ بتواضع: "إهدنا وعلّمنا وأرشدنا إلى الطريق لنفهَم بشارتِكَ. دخول البيت والبقاء مع ربّنا يسوع سيقوينا ويعضدنا في مسيرة حياتنا ويجعلنا لا نُسرِع في الحكم ودينونة الآخرين، ولا نغضَب أمام مشاهدِ الشر مهما كانت مُحزنة، بل نكون مثل إلهنا، نسهَر ليكون عالمنا أرضاً طيبة للعيش، وهذا يحتاج إلى الكثير من المحبة والإيمان بإلهنا الرحوم. وهناك خطأة كثيرون آمنوا بالبشارة وفتحوا قلوبهم ليُقدسهم الله ويُقدِسَ العالم من خلالهم.
لنُصلِ يا إخوتي وأخواتي ليمنحنا إلهنا نعمة الصبر، أن نكون صبورين مع أنفسنا مع الآخرين ومع الله. أن يهبَ لنا نعمة رؤية الناس لا من خلال أفعالهم، بل من خلال عيونهِ هو، عيون المحبة والرحمة والغفران. فالأم تريزا، والتي رفعتها الكنيسة قديسة على مذابحها كانت تقول: "إذا دُنتَ الناس فلن يكون لك وقت لتُحبهُم".
الأحد الثاني من إيليا
أرضٌ طيّبة وثمارٌ وفيرة (متى 13: 1- 23)
أنعمَ الله على الجميع من دونِ إستثناء بالخلاص بيسوع المسيح، كلمتهُ الحاسمِة، فهو لم يأتِ ليدينَ العالمَ بل ليُخلّصهُ. الله بذرَ الكلمة بوفّرة على كل الأراضي، وهو ينتظِر أن تستقبِل هذه الأرض كلمتهُ وتحرُص على أن تأتي بثمارٍ وفيرةٍ. هذا الحرِص يعني: فرحَ قبولِ هذه الكلمةِ، والاجتهاد في حراستها فتنمو بعيداً عن الأخطار والتجارِب التي تسرِق الحياة منها، والسعي لتكون الأرض طرّية تتفاعلُ مع نمّو هذه البذرة ولا تعترِضها حتّى تطلعَ سُنبلةً وثُثمِرٌ ثمراً صالحاً.
إلهنا وملكنا ينتظِر من الجميع إذاً أن يكونوا مُستعدين لقبولِ كلمتهِ، والحال يجد الله أن هناكَ أراضٍ ليس لها حدود أو ضوابط بل هي عُرضة لكل مَن هبَّ ودبَّ. وأرضٌ أخرى سطحيّة ليس لها قُدرةُ الحفاظِ على هذه النعمةِ. وهناك أرضٌ صخرية صلبةٌ لا تتحملُ ولا تتفاعلُ مع نمّو الكلمة، لقد فقدت طراوتها وأصبحت قاسية. وهناكٌ أرضٌ تفرحٌ بالكلمة ولكنها محبوسةٌ في همومِ هذا العالم. وأرضٌ خصبةٌ طرية تستقبلُ الكلمة وتسمح لها بأن تنغرس فيها لتموتَ وتُنمو وتُثمِر وتُعطي ثمراً وفيراً.
هذا هو حالُ الإنسان أمام نعمة كلمة الله التي تُعطى له. بعضٌ له قلبٌ مُتكبرٌ ومتعجرِف لا يعرِف الإنضباط ومُعرضٌ لكل الأهواء والشهوات، متعلقٌ براحتهِ ومصالحهِ وغيرُ مكترثٍ بما يتطلّبة الإيمان. أو مَن له قلبٌ مرائي يفرحُ بالكلمة ويبدو للناس مؤمناً ولكنه غير مُستعدٍ للإلتزامِ بما تتطلّبهُ من جهدٍ وإجتهادٍ لحراستها، فأضحى قلباً جافاً ويابساً لا حياة فيه يغزوه شوكُ الغضب والحسد والخصومة والعداوة، وإن لم يُظهِرها. أو ذاك الذي له قلبٌ حزينٌ ومنشغلٌ بهمومِ هذا العالم: الغنى والسلطة والشهرة. أو مَن إمتلَك قلباً منفتحاً لنعمةِ الله يستقبلُ الكلمة ويتأملَ فيها ويتوبَ إلى متطّلباتها ويجتهِد ليأتي بثمارٍ وفيرة.
مثلُ الزارع هو من الأمثلة التي فسّرها ربّنا يسوع المسيح، ويدعونا لنسأل أنفسنا: أيُ أرضٍ أنا؟ وهل أجتهدُ في الحفاظ على نعمةِ كلمة الله في حياتي؟ هل سعيتُ لأن أنزَع عن حياتي كل ما يعيقُ نمّو هذه الكلمة؟ هل يكفي بأن أُظهِرَ للناس فرحتي بكوني مسيحي أم أن ربّنا ينتظر مني أكثر مما يبدو في الظاهِر؟ هل أن إلهنا ينتظر منّا حماسة التدين أو شجاعة الإيمان؟
لنُصلي ليُنعِمَ علينا الله الآب بالرحمة ويجعلنا رُحماء مثلهُ، ولكن ما الذي تغيّر فينا خلال هذه السنة؟ طلبُ الرحمة وأن نكون رُحماء ليس أمنيةً، بل مسيرة علينا أن نجتهدِ فيها ليكونَ لنا فُكرٌ الآب، حتّى نكون رُحماء مثله. قلوبنا أرضٌ جرداء بسبب المخاوف التي تأسرها. قلوبنا أرضٌ صخرية قاسيةٌ بسبب الهمومِ والخلافات والخصومات والعداوة التي لنا مع هذا وذاك، والتي نرفض الإستغناء عنها، وكأنها لن تُعطّل الأرض أبداً. صرِنا نسألُ الرحمةَ ونحن لا نستحقها في الواقع، فرحمة الله ستأتي لتُبارِك حياتنا بمحبتهِ، وستجدنا مشغولين ومنشغلينَ عنها، ومهمومين بمشاكل وأزمات كثيرة، ولسنا مُستعدين للتنازُل عن ما نعتقد أنه هو الصحيح، وإن طُلِبَ منّا التنازل فنُقدِم أقل ما يُمكِن أن يُقدَم، وليس لنا الشجاعة للإعتذار والتوبة إلى ما يُريده الله منّا، فتُسرَق منّا هذه النعمة، أو تختنِق من دون أن تأتي بالثمار المرجوّة. ونواصِل حياة الإزدواجية فنقِف أمام الله طالبينَ الرحمةَ. فما الذي غيّرتهُ نعمة الرحمة فينا؟
ربّنا يدعونا اليوم لنشكَر الله الآب لأنه يشمُلنا جميعاً بمحبتهِ من دون إستثناءٍ، ويدعونا أيضاً لنبدأ مسيرة التوية من خلال تنظيف قلوبنا من كل ما يُعيقُ نمو كلمتهِ فينا. يدعونا ربّنا لأن نؤمِن أن الحياة هي مع كلمتهِ وليس من دونهِ، وأن كلمتهُ هي أهمُ من أفكاري ورؤيتي. يُنادينا لأن نتخلّى عن ما نعتقد متوهمينَ أن لنا فيه الحياة، فالحياة هي مع كلّمةِ الله وليس من دونها: "فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة تخرج من فم الله".
ربنا يدعونا ليكون لنا الشجاعة فنقلَع ونرفع عن قلوبنا كل ما يُعيقُ نمّو هذه الكلمة، كلمة الله لا تنمو مع الخصومة والعداوة، ولن تُثمِرَ في قلوب قاسية مشوشة بالحسد والعجرفة. إلهنا يعرِف أن هذه الكلمة ستنمو وسيتطلّب ذلك أن نكون مُستعدين للتفاعل مع هذا النمو الذي يكبُرُ فينا ويحتاج إلى "طراوة" تجعل الكلمة تنمو بأمان، وتأخذ كل ما هو خيرٌ وحسنٌ فينا، ليكون سخاء الثمار نتيجة "نعمةِ" الله وتعاونِ الإنسان الذي يُؤمِن بالكلمةِ، وهذا لن يكون إلا إن كان لنا إستعداد لنتخلّى عن "الأنا" العظيم من أجل "كلمة الله" المتواضعِة.
"مَن له إذنان لتسمَع فلتسمَع"، دعوةٌ إلى التوبة يوجهها ربّنا يسوع للجميع من دون إستثناء. يُخاطبنا على نحوٍ شخصي، ويهبُ لنا الفرصة تلو الأخرى للتوبة، ليُرطبَ جفاف قلوبنا ويبوستها، ويطهر قلوبنا من الأحجار والأشواك ومن ما هو ضارٌ، فيكون القلبُ أرضاً خصبةً. ربّنا عالمٌ بأن السماع يعني "الإجتهاد"، التأملُ والسعي في تحقيقِ إرادة الله في مواجهةٍ إرادتي الشخصية وأهوائي ورغباتي، قبل النظر إلى الآخرين ودينونتهم، وهي تجربةٌ تُبعدنا عن ما يطلبهُ ربّنا منّا: "إجتهد ليكونَ قلبُكَ أرضاً طيبّة لإستقبالِ الكلمة".