الرابع من البشارة
يوسف البار: المدعو ليكونَ حارساً (متى 1: 18- 25)
"في البَدءِ خلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والأَرض وكانَتِ الأَرضُ خاوِيةً خالِية وعلى وَجهِ الغَمْرِ ظَلام ورُوحُ اللهِ يُرِفُّ على وَجهِ المِياه. وقالَ اللهَ:"لِيَكُنْ نور"، فكانَ نور" (تك 1: 1-3)، هكذا تبدأ قصّة الله مع الإنسان، والروح نفسه الذي كان يُرفرفُ على وجه المياه وأبدع النور والخليقة كلّها، هوذا يرفرفُ في حياة مريم التي استقبلهُ بصمتٍ وبطاعةٍ لتحمل للعالم "النور" الحق: "يا يُوسُفَ ابنَ داود، لا تَخَفْ أَن تَأتِيَ بِامرَأَتِكَ مَريمَ إِلى بَيتِكَ. فإِنَّ الَّذي كُوِّنَ فيها هوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس، وستَلِدُ ابناً فسَمِّهِ يسوع، لأَنَّه هوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعبَه مِن خَطاياهم (متّى 1: 20- 21). هو النور وهو المُخلّص الذي شاءَ أن يأتِ إلى العالم ليُعيد الإنسان إلى بيتِ الآب، فاختارَ أن يُولدَ صغيراً في قرية نائيةٍ، ليكون تحت رعاية إنسانٍ بارٍ إسمهُ يُوسُف الذي قالَ عنه الإنجيلي متّى: إنه البار.
عندما نُصلي المزامير نتعرّفُ على هوية البار. فهو إنسانٌ يتقي الربَ يقفُ متواضعاً أمامه، ويسلُك طريقَ الكمال. يتكلّمُ بالحقِ ولا يغتابُ بلسانهِ ولا يصنعُ شراً أو يُنزلُ عاراً بقريبهِ. يسمعُ لليتمِ والأرملة ويُحبُ رحوماً وعادلاً، فيُفكّر في خير الآخر وإن كان خصمهُ: "أَنتَ أَبَرُّ مِنِّي، لأَنَّكَ جَزَيتَني خَيرًا وأَنا جَزَيتُكَ شَرًّا" (1 صم 24: 18). عرِفَ يوسف أن خطيبتهُ مريم حُبلى فهي كشفتَ له عمّا تختبرهُ في حياتها. ولم يكن هذا الأمرُ سهلاً للقبول، فهمَّ بتخليتها سراً، أي، على عائلتها أن تُدبّر أمرَ هذه الولادة والعناية بالمولود، وينسحِب هو عن حياتها من دون أن يُثيرَ ضجّة حولها، لأن الشريعة ستُحاسبها على هذا الجُرم. ولكن، ولأنهُ إنسانٌ بار، أي، الإنسان الذي يُبقي الحوار مع الله متواصلاً لاسيما في الساعات الحرجة التي يختبرها في حياتهِ، فصلّى وقت الأزمةِ وكشفَ في ذلك عن صداقةٍ أصيلة مع الله، فلم يتركهُ الله في ضيقهِ فأرسلَ إليهِ ملاكهُ ليُثبّته في الإيمان ويكشِف عن هوية مريم وعنّ سرّ الحبل الإلهي، وكلّفه برسالة: "أن يُسمي الطفل" ليكون والدَهُ الشرعي ومُكلفاً بحراسةٍ مريم وإبنها.
بِر يوسف تجلّى في استعدادهِ ليكون تحت تصّرف الله وخدمة مشروعهِ، مؤمناً بهِ حتّى لو لم يفهَم ما يُريده الله منه. برّه جعله قادراً على تمييز إرادته؛ لأنه أصغى بإعتناءٍ لصوتِه وطاعة تامّة، وأعطى المكانة المُطلقة لله في حياتهِ، ولم يدع أفكاره وتأملاتهِ كي تجرّه إلى طُرق عنيفة أو صاخبة وإلى حلول فوضويةٍ، بل واصل السير في ظلمة الأفكار التي تتصارَع فيه، فاستسلمَ كلياً لله (نامَ نومَ المتأمِل)، حتّى لو لم يفهم تدبير الله ومطالبهِ: "يَرُزقُ حَبيبَه وهو نائم" (مز 126: 2)، ونومٌ البار ليس تهرباً من مشروع الله، بل انفتاح على الحضور الإلهي في حالةٍ من الوعي، إذ يضعُ الإنسان جانباً ما يُفكِر به ليسمَح لله بالتفكير فيه ومن خلالهِ.
برّ يوسف تواصلَ في فعل الطاعة الذي التزمَ به: "فلمَّا قامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوم، فَعلَ كَما أَمرَه مَلاكُ الرَّبِّ"، فلم يُؤجِل المهمّة لأيامٍ، ولم يستشر مُفسِّرَ أحلامٍ، بل كمّل كل ما أوصاه به الملاك، فصار الحارس والمُدبر والمعتني والمُحّب والمرافِق للأم وطفلها مُتخلياً عن إرادتهِ ورغباتهِ الشخصية ليكون تحت تصرّف تدبير الله الخلاصي. هو إبنُ داود ذاك المُحارِب الشجاع الذي لم يخفَ من قوّة أعدائهِ مؤمناً أن الله معهُ. داود الذي تمنّى أن يبني لله هيكلاً يليقُ به، هوذا إبنهُ، يوسف، يُدعى لحربٍ من نوعٍ آخرى يقودها إبنهُ: يسوع (المُخلصِ) وحراسة هكيل الله الجديد؛ مريم. دُعي يوسُف ليُحبِ خطيبتهُ وزوجته في بتوليتها، ويعتني بطفلها من دون أن يتوقّع مكافأتٍ شخصيةٍ، بل كان عليه تحمُلُ المشقات بسبب هذه الدعوة. دعوته كانت: أن يكون الأب المَرئي لتدبير الله الخلاصي على الأرض، أن يخدُم إبن الله وأمه بسخاء تامٍ، وهذه مكافأة بحدّ ذاتها. هل فِهمَ يوُسف كل هذا عندما ظهرَ له الملاك؟ لا نعرِف، الذي نعرفهُ هو أنه تصرَّف كإنسانٍ بار، ونهضَ من نومهُ وأتمَّ كل ما أمرهُ به الملاك من دون أن خوفٍ. ففي هذا هو البيت الذي تربّى فيه ربّنا يسوع على الأرض، بيت يوسف ومريم، وكان "يَتسامى في الحِكمَةِ والقامَةِ والحُظْوَةِ عِندَ اللهِ والنَّاس" (لو 2: 52). قِبِلَ يوسف دعوة الله له بطاعةٍ تامّة، وصمتهُ خيرُ تعبيرٍ عن ذلك، فكان مثالاً ليسوع، إذ عوّدهُ على التقرّب من كلمة الله والحجِ إلى هيكلِ أورشليم كأبٍ صالحٍ، فالأبوّة المسؤولة تعني أن يهتمَّ الأب بنمو أبنائه جسديا وروحياً، فيقبَل الأبن دعوتهُ من الله مثلما قبلها يوسفُ أيضاً. فحلم الله للبشرية لم يكن ليتحقق لولا الـ"نعم" التي قالها يوسف ومريم. "لقد أخذ هذا الرجل وعد الله وحمله قدمًا بقوّة لأنّ هذه كانت مشيئة الله" على حدِّ تعبير البابا فرنسيس.
اليوم، تأتينا كلمةُ الله لتدعونا إلى إلتزامِ مسؤوليتنا في أن نكون حُراساً أمناء على إخوتنا. نحن نعيش في عالم يبحث عن هفواتٍ صغيرة في حياة الآخرين ليجعل منها عناوين أخبارٍ على صفحاتِ التواصل الإجتماعي. فليكن مار يوسُف مثالاً لنا في كيفية التعامل مع خصوصيات القريب. نحن نبحث وبفضولية مُخزية أحياناً عن أخطاء الآخرين لنفضحهم ونتستّر على "خطايانا"، هوذا يوسف يُعلّمنا طريق البِر فلا نُعرِض حياة الآخرين إلى خطرٍ. نحن ساعاتٍ في التقصي في حياة الآخرين لنُمسِك عليهم هفوة لنشهِرَ بهم، فيدعونا يوسُف اليوم إلى أن نُقرِب إلى الله حياة الآخر بكل ما تحملهُ من شكٍّ وتساؤل وحيرةٍ، ليُدلّنا على كيفية التعامل بمحبة ورحمة وعدالة، لئلا نكون نحن سبب موتِ القريب. دٌعينا على مثال يوسُف لنكون حُراساً على حياة القريببكل جوانبها، فليُساعدنا ربّنا لنُكمِلَ دعوتنا مثلما يُريدها هو، وليكن يوسف البار قُدوةً لنا.