الأحد الأول من البشارة
"ومن الآن تكون صامتاً" (لو 1: 1- 25)
نبدأ اليوم سنة طقسية جديدة وفيها ترافقنا أمنا الكنيسة من خلال مقاسمة كلمة الله والافخارستيا في تنشئتنا الروحية نسمح فيها ومن خلالها لربّنا يسوع بأن يتغلغل في تفاصيل حياتنا بدءاً من الإحتفال بالافخارستيا يوم الأحد. فيوم الأحد هو عيد القيامة الأسبوعي. لقد بدأ المسيحيون بالاحتفال بعيد القيامة السنوي في آواخر القرن الميلادي الثاني، وبدأت الكنيسة تحتفل ببقية الأعياد حول عيد القيامة إحياءً لأحداث حياة يسوع مع ذكرى الشهداء والقديسين وأمنا مريم العذراء، وهي (إي الكنيسة) تتطلّع لأن نُمحوّر حياتنا حول "حياة ربّنا يسوع"، الطريق الحق إلى الحياة الأبدية، إلى الله.
تبدأ مسيرتنا الإيمانية مع زكريا وإليصابات اللذين يُمثلان في شخصهما كل انتظارات العهد القديم، في إيمان مصلٍّ يرجو تدخل الله الحاسم بعد نفاذ كل السُبل الإنسانية. فبعد قرون من الإنتظار هوذا الوعد بدأ يتحقق، الله نفسه يتدخّل ليُعيد الإنسان إليه. فالتجسّد الإلهي ليس سراً لنتأمل فيها وعقيدة نُعلّمها، بل هو طريق الله إلينا ونداء ينتظر الإستجابة منّا. إلهنا الذي يعرِف أن الإنسان يسعى لإبعادهِ عن الأرض وعن حياتهِ، ويتوهّم أنه قادرٌ على العيش دون الله، حتّى وصلَ الإنسان إلى حالةٍ من الجفاف واليبوسة عبّر عنها الإنجيل اليوم بقولهِ: "ولم يكن لهما ولدٌ لأن إليصابات كانت عاقراً وكانا كلاهما قد طعنا في أَيامِهما". لقد صلّى طويلاً من أجل أن يكون له ولدٌ، ولكنه يبدو أنه لم يكن مُستعداً لأن يقبل عطية الله التي تأتي استجابة لصلاتهِ. كان يعتقد أن قبول طفلٍ هو مُعجزة، ونأسف جميعاً أننا لم نعد نرى هذا الحدث في حياتنا. ولادة كل طفلٍ تأكيد على "ثقة" الله بالإنسان، وتجديد للرجاء في الإنسانية.
إلهنا لم ينسَ وعدهُ ولم يتخلَ عن شعبه، فبُشرى اليوم أُعطيَت لزكريا الكاهن وزوجته وهي من بنات هارون في الوقت الذي كان فيه يُقدِّم البخور في الهيكل، ليقول لنا الإنجيلي لوقا: إن المسيحية وُلِدت من رحم اليهودية، وسيواصل لوقا الإنجيلي رواية "البُشرى السارة"، والتي صارَ لها شاهد عيان في القسم الثاني من كتابهِ: "أعمال الرُسل" فيُعلِن أن وعدّ الله تحقق بيسوع المسيح والكنيسة شاهدةٌ على ذلك. ومثلما صارَ تحقيق الوعد في الهيكل، سيواصِل الرُسل الأوائل، الكنيسة الأولى، الصلاة في الهيكل، حتّى ينالوا الرُوح القُدس في العُلية ومنها ينطلقونَ إلى العالم أجمع.
تدخّل الله الحاسِم في تاريخ الإنسان يفتقر إلى جواب الإنسان، طاعة الإيمان. فيوحنا، نبيُّ الله، سيسلُك على نحو مُميّز في حياتهِ: "لن يشربَ خمراً ولا مُسكراً ويمتلئ من روح القُدس وهو في بطنِ أمّه ويُعيد كثيرين من بني إسرائيل إلى الربّ إلههم، وهو يمضي أمامهُ بروحِ إيليا النبي وقوّتهِ". فإذا أردنا أن يتدخّل الله في حياتنا وأن نستقبلهُ في بيوتنا علينا أن نتهيأ لقدومهِ وأن نسلُك حسبَ مرضاتهِ، وأول خطوةٍ نتخذها هي أن نترك المكان الذي نحن فيه لنتحوّل إلى حيث ينتظرنا الله. أن نُغادِر الأمكنة التي تجعلنا مشغولين ومنشغلين عن الله فنصل إلى المكان الذي نجد فيه الله: قلوبنا. لذلك، أمرَ ملاكُ الربّ زكريا بأن يبقى صامتاً، فالصمتُ يُساعدنا لسماع صوتِ الله والإصغاء إلى حضورهِ، لأن الله لن يحضر حيث الصخب، ولن يُحاوِر مَن يتكلّم وينشغِل بأفكاره وهمومه وتطلعّاتهِ: "فقالَ الرَّبّ: "اخرُجْ وقِفْ على الجَبَلَ أمامَ الرَّبّ". فإِذا الرَّبُّ عابِرٌ وريحٌ عَظيمةٌ وشَديدةٌ تُصَدِّغ الجِبالَ وتُحَطِّمُ الصُّخورَ أمامَ الرَّبّ. ولَم يَكُنِ الرَّبُّ في الرِّيح. وبَعدَ الرِّيحَ زِلْزالٌ، ولم يَكُنَ الرَّبُّ في الزِّلْزال. وبَعدَ الزِّلْزالِ نار، ولم يَكنِ الرَّب في النار. وبَعدَ النَّارِ صَوِت نَسيمٍ لَطيف. فلَمَّا سَمِعَ إِيليَّا، سَترَ وَجهَه بِرِدائِه وخَرَجَ ووَقَفَ بِمَدخَلِ المَغارة. فإِذا بِصَوتٍ إِلَيه يَقول: "ما بالُكَ ههُنا يا إِيليَّا؟" (1 مل 19: 11- 13).
عالمنا صاخبٌ بكل أحداثهِ، ومزعجٌ بأحاديثهِ فأبعدَ الله، ولأن الله محبّة، وهو الذي أوصى بأن نُحِبَ أعداءَنا، فهو يُكمِل ما يُوصي به فيُحبُ الإنسان الذي أبعدهُ عن حياتهِ وظنهُ منافساً له مُصدقاً كذبة المُجرّب لأبينا آدم: " فقالتِ الحيَةُ لِلمَرأَة: "مَوتًا لا تَموتان، فاللهُ عالِمٌ أَنَّكُما في يَومِ تأكُلانِ مِنه تَنفَتِحُ أَعيُنُكُما وتَصيرانِ كآلِهَةٍ تَعرِفانِ الخَيرَ والشَّرّ". (تك 3: 4-5). نحن بحاجة إلى الصمت اليوم لتكون الصلاة ممكنة، ويكون الحوار حقيقياً، فكيفَ لنا أن نُصغي إلى الآخر وننتبه إلى حضوره إن لم نتوقّف عن الكلام ونصمُت؟ ومن أجل إصغاء حقيقي لا يكفي صمت الفم، بل صمتُ القلب أيضاً. هناك من يتوقف عن الكلام ويبدو صامتاً، ولكنهُ ليس منتبهاً إلى حضور الآخر بل يظل منشغلاً بافكارهِ، وهذا ليس بحوار إنساني مُطلقاً ولربّما يُسيء الظنُ فيه ويُعاديهِ حاقداً. نحن بحاجة إلى صمتِ القلب، وفي حياتنا مع الله ومع القريب، يبدأ الصمتُ في القلب، فقد قال الرب: "ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان، لأَنَّهُ مِن باطِنِ النَّاس، مِن قُلوبِهم، تَنبَعِثُ المَقاصِدُ السَّيِّئةُ والفُحشُ وَالسَّرِقَةُ والقَتْلُ والزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والمَكْرُ والفُجورُ والحَسَدُ والشَّتْمُ والكِبرِياءُ والغَباوة (مر 7: 22-22). جَميعُ هذِه المُنكَراتِ تَخرُجُ مِن باطِنِ الإِنسانِ فتُنَجِّسُه". فهذا الصمت هو الأصعب، التخلي عن رغباتنا وما نُريده وما نتصوّره عن الآخرين، عن الله. هذا الصمت يعني الحضور كلّيا لله وللآخرين، وسيهبُ لنا الله حضوره المُحِب والحنون: يوحنّا، ويجعل الله من حياتنا "نعمة" في حياة الآخرين.