الأحد الأول من تقديس البيعة
إيمان شخصي مُلتزم (متى 16: 13- 19)
نبدأ اليوم زمناً طقسياً يُكلل مسيرة الكنيسة مع سيّدها ربّنا يسوع المسيح، زمنُ تقديس البيعة، طالبينَ منه أن يُقدسنا جميعاً نحن كنيستهُ، هو الذي قال في صلاته: "وأنا اُقدّس ذاتي من أجلهم" (يو 17: 19). وأولُ حقيقةٍ يجب علينا أن نتذكرها هي أن ربّنا يسوع أرادنا كنيسةً تحملُ الله إلى العالمِ، مثلما جاء هو حاملاً الله إلى العالم. والله هو عطاءٌ سخيٌ، الله هو محبّة، فتكون الكنيسة، بسبب حضورِ الله المُحب فيها، جماعة أخوةٍ حقيقيين ومُتحابين في مسيرة الحياة والإيمانِ، ومتضامنينَ في الفرحِ والحزنِ، فالقديس لوقا وصفَ الكنيسة الأولى قائلاً: "وكانوا مواظبينَ على تعاليم ِالرُسل والشِركةِ في كسرِ الخُبزِ والصلواتِ، وكان جميعُ المؤمنينَ معاً وكان كلّ شيءٍ مُشتركاً بينهم ... ويُلازمونَ الهيكلَ كلَّ يومٍ بنفسٍ واحدةٍ ويكسرونَ الخُبزَ في البيوتِ ويتناولونَ الطعامَ بإبتهاجٍ ونقاوة قلبٍ ... وكان الربُّ كل يومٍ يضمُّ الذين يخلصونَ إلى الكنيسةِ (أع 2: 42). فالمحبة كانت تجمع الكنيسة وتربط أعضائها معاً وكانت الدافعَ لإنضمامِ آخرين إليها، وهذا لأنّ الجماعة شهِدتَ في ربّنا يسوع حضورَ الله، فتبعتهُ. فصلاتنا اليومَ يجب أن تكوَنَ من أجل أن تنتشرَ محبّة الله بيننا فنحاربَ وحوشَ الأنانية التي تُفرّقنا لنكونَ الملكوتَ الذي يُريدهُ الله على الأرض.
سأل ربّنا يسوع تلاميذه: مَن تقول الناس إني إبنُ الإنسان؟ بمعنى آخر: كيف أثّرت كلماته وأفعالهُ فيهم؟ ويأتيه الجواب: أن الناس مُعجبةٌ بكَ يا ربٌّ، إنك نبيٌ عظيم، مُعلمٌ حكيم. وليس في ذلك ما هو جديد عن عالمنا اليوم أيضاً، فهذا ما يقوله غير المسيحيين حتى يومنا هذا عن شخصِ يسوع. ولكنَّ الربَّ لا ينتظر من رُسله أن يقولوا له أقوال الناس وآراءَهم، بل يُريد ان يسمع جوابهم (وجوابنا) الشخصي: "وأنتم مَن تقولون؟ فيأتيه جواب بطرس ليُعلنَ باسم التلاميذ وباسم الكنيسة: انت المسيح إبن الله الحي!
ولكن الفرق بين جواب الناس وجواب الكنيسة؟ فربّنا يسوع علّمَ واتّخذ مواقف شُجاعة!
أن يكون مُعلّما أو نبياً، فهذا يعني لكَ إما أن تختاره وتتبعه وإما ان تنبذ تعليمهِ. فأن يكون المسيح المُخلّص فهذا يعني أنك تعترفُ به ربّاً ومُخلّصاً، يعني أن تتبعهُ بإخلاص، واتباعه مُكلفٌ، اذ يتطلّب حملَ الصليب يومياً والسير في اثره وان نشهد أنه: الطريق الأوحد للوصولِ إلى الله، فهو المُخلّص. أن تعرفَ أن يسوع هو طريقُ الخلاص جيد، ولكنَّ الأفضل هو أن تتبع يسوع على هذا الطريق. وفي أول اسابيع تقديس البيعة، يُريد ربّنا أن يجعل من كنيسته، منّا جميعاً: معجزة التباعة. ربّنا يُقدس كنيسته، شعبه المُستعد ليحمل الصليبَ ويتبعهُ شاهداً لمحبّة الله في العالم. لأن الكنيسة لا يُمكن أن تكون كنيسة يسوع المسيح من دون هذا الجواب الشخصي والمُلتزِم بيسوع المسيح.
ربنا ينتظر منّا أن نكون كنيسته المُقدَسة، وبالتالي أن نُقدّس العالم من حولنا، وهذا لن يتحقق ما لم نكن في صلة وثيقة معه شخصياً. قد نقوم بأعمال محبّة عظيمة، ولكنَّ لن تكون هذه أعمالاً مسيحية ما لم تتأصل في يسوع المسيح مُخلّصنا: أنت المسيحُ إبنُ الله الحي. يعني أن علينا أن نُبرهن في المواقف الصعبة، في الألم والضيق ان لنا جواباً مُحبّاً ليس كجوابِ العالم، فنكون مثل الذهب الذي يُصفَّى بالنار. ربّنا لن يبني كنيستهُ على إيمانِ أناسٍ مُعجبين بكلامه، ولن يبنيها على إيمانِ شعبٍ يكتفي بالتحدث عنه، بل على إيمانِ مَن هو ثابتُ فيه. ربّنا يبني كنيسته على كل مَن هو مُستعدٌ ليكون له شاهداً، والشاهدُ إنسانٌ عرِفَ الحقيقةَ وعاشها، وهو مُستعدٌ ليموت من أجل هذه الحقيقة.
ربنا يسوع لم يعد بالسعادة والراحة لمَن سيتبعهُ بل أكّد لبطرس، ولنا جميعاً، أن الكنيسة ستجابه مُضايقاتٍ خطيرة: "أبوابُ الجحيمِ". كل قوى الشر ستتحالف ضد الكنيسة، ولكن لن تهزم الكنيسة، ما دامت أمينةً لمُخلصها الذي افتداها بدمهِ وجعلها عروسةً له، وإن تخلّفت عن الوعد فهو معها ليشفيها من جروحها. تاريخنا الإنساني يروي المُضايقات والاضطهادات التي انهالت على الكنيسة عبر الاجيال، وكان أشدّها تلك التي تأتي من داخل الكنيسة، والتي سببت إنشقاقاتٍ وتحريمات. خبراتٌ مؤلمة ممن كرسوا أنفسهم لخدمة الكنيسة ورسالتها. ولعل اسوأ محنة تمر بها الكنيسة هي تلك المواقف السلبية التي بعض ابنائها بتشاؤمهم امام مسيرة الكنيسة اليوم، فيقولون يائسين: ان "الكنيسة تسير نحو الهاوية، ولا خير في الكنيسة، ولا نفع لها، هذه هي كلمات المُجّرب التي يفرح إذ يسمعها من افواه ابناء الكنيسة. فهو يُريد أن نرفعَ رايات الإستسلام متناسين أن الصليب كان وما يزال علامة لمصداقية حياة الكنيسة وصدق شهادتها، ورمزاً لانتصار ربّنا يسوع على قوى الشر والظلام.
اليوم يُسمعنا ربّنا يسوع نحن أيضاً السؤال: مَن تقولون أني هو؟ مَن انا بالنسبةِ اليكم؟ وجوابنا سيُحدد هويّةَ حياتنا واسلوبها. ربنا يُريد أن يبني كنيسته التي قدّسها بعطيّة حياته، ويُريد أن يُقدّس العالم كلّها، فينتظر منّا جواباً مُحبّاً. ربّنا يُريد أن نعرفهُ هو شخصياً، أن نكون مُستعدين لنُقدّمَ له بشهادة حياتنا مجالاً ليبني كنيسته مثلما يُريدها: "وأنتم شهودٌ لي". اليوم علينا أن نتبع، فليس أمامنا إلا أن نكونَ مسيحيين. وأن نكون مسيحيين يعني أن نثبُتَ أمينين على ما تلقيناه من نعمة، ولا نيأس أو نتراجع عندما نتعرض لصعوبة او لمحنة. فالذي دعانا هو قدّوسٌ، وعلى كنيسته ان تكون مُقدسة: "كونوا قديسين مثلما أنا قدّوس"، وقداسة الله ظهرت بمحبّته لنا، وهي دعوة لنكون نحن صورته.