التطويبات
حياة أبناء الملكوت
المُقدمة
التطويبات: نَفسُ الله في حياة الإنسان، ودعوة من الله إلى الإنسان ليعيش حياة الإلوهةِ: "فكونوا أَنتُم كامِلين، كما أَنَّ أَباكُمُ السَّماويَّ كامِل" (متّى 5: 48). فالتطويبات تكشِفُ عن عظمةِ عمل الله في الإنسان مثلما أعلنَت أمنا مريم: "سَوفَ تُهَنِّئُني بَعدَ اليَومِ جَميعُ الأَجيال لأَنَّ القَديرَ صَنَعَ إِليَّ أُموراً عَظيمة: قُدُّوسٌ اسمُه" (لو 1: 48- 49).
التطويبات: كشفٌ من ربّنا يسوع لحالة "أبناء الملكوت": هنا والآن. تهنئةٌ يُقدِمها لمَن إختارَ "مواقف حياتية متمايزة عن الآخرين". لكلِ مَن اختار توجهاً في حياتِه يُعجّل مجيء ملكوت الله على الأرض. أُناس وجدوا السعادة لا في ما يملكون بل في الله. لا في المكانة المتميّزة التي يسعون للحصول عليها، بل في الكينونة مع الله.
التطويبات: تُعلِن أيضاً عن حقيقة حياة تلميذ ربّنا يسوع، ما الذي سيُعانيهِ التلميذ في حياتهِ عندما يُكرِس حياتهُ كلّها للرسالة ويُضحي بكلِ شيء من أجل المسيح، الذي وجدَ فيه الحياة: "فما أنا أحيا بعد اليوم، بل المسيح يحيّا فيَّ" (غلا 2: 20).
لا تَعِد التلميذَ بمُستقبلٍ أفضل من الحاضِر، بل تصفُ الحاضر الذي يعيشه: هو تلميذٌ فقير ولكنهُ مُبارَك. مُضطهدٌ ولكنه ليس هالكاً. تلميذٌ يعيش فرح العلاقة مع الله، تلميذٌ سمحَ للمسيح يسوع المرفوض والمُعذَب والمرفوع على الصليب، أن يُواصِل حياته فيه ومن خلالهِ: "ما زلنا نُسلَم إلى الموت لتظهَر في أجسادنا الفانية حياة المسيح" (2 كور 4: 11). وهي تكشِف لنا في الوقتِ ذاته عن وجود علاقة متميّزة بين التلميذ والمسيح.
التطويبات: دعوة من ربّنا يسوع إلى تبني أسلوب حياة شخصي يعمَل على تغيير واقع الحياة من حولنا، حياة التسلّط والتملُك والقوّة والجشع والبحث عن الشهرة والصيت الحسَن. لم يقصد ربّنا أن يعزل الإنسان بعيداً عن الآخرين في تعبّد شخصي لله، بل ليُؤَسِسَ الإنسان حياتهُ على الله، ويعمَل على إحداث إنقلاب جذري في حياة الجماعة التي يتقاسم معها العيش.
للتطويبات رسالة لنا اليوم، وسنتأمل التطويبات الثمانية مثلما قدّمها متّى الإنجيلي، وسنسأل أنفسنا: كيف يُمكننا أن نعيش هذه التطويبات في واقع حياتنا اليوم؟
إستهلَ متّى إذاً عظة ربّنا يسوع على الجبل بالتطويبات:
فلمَّا رأَى الجُموع، صَعِدَ الجَبَلَ وَجَلَسَ، فدَنا إِلَيه تَلاميذُه فشَرَعَ يُعَلِّمُهم قال:
"طوبى لِفُقراءِ الرُّوح فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات.
طوبى لِلوُدَعاء فإِنَّهم يرِثونَ الأَرض.
طوبى لِلْمَحزُونين، فإِنَّهم يُعَزَّون.
طوبى لِلْجياعِ والعِطاشِ إِلى البِرّ فإِنَّهم يُشبَعون.
طوبى لِلرُّحَماء، فإِنَّهم يُرْحَمون.
طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله.
طوبى لِلسَّاعينَ إِلى السَّلام فإِنَّهم أَبناءَ اللهِ يُدعَون.
طوبى لِلمُضطَهَدينَ على البِرّ فإِنَّ لَهم مَلكوتَ السَّمَوات.
طوبى لكم، إِذا شَتَموكم واضْطَهدوكم وافْتَرَوْا علَيكم كُلَّ كَذِبٍ مِن أَجلي،
اِفَرحوا وابْتَهِجوا: إِنَّ أَجرَكم في السَّمَواتِ عظيم، فهكذا اضْطَهدوا الأَنبِياءَ مِن قَبْلِكم.
السياق العام للتطويبات
حسب متّى الإنجيلي
استهل ربّنا يسوع عِظَتَه على الجبل بالتطويبات. وتُقسم على مجموعتين: الأربع الأولى تخصّ علاقتنا بالله، والأربع الثانية تخصُّ علاقتنا بالقريب، وهي موجهةٌ في صيغة الغائب: "طوبى لـِ ..."، ويُضاف إليها تطويبةٌ تاسعة مُوجهةُ في صيغة المُخاطَب: "طوبى لكم ..."، تُعد تواصلاً للتطويبة الثامنة، مثلما سنرى.
تبدأ كلتا المجموعتين بكلمةِ: "مكاريوس" التي تُرجِمتَ الى كلمة "طوبى"، وهي كلمة آرامية تعني "هنيئاً، مُباركٌ" "كم هو محظوظٌ" وكانت لفظة(مكاريوس) تُطلَق حسب الآداب اليونانية على الآلهة؛ لأنهم يتمتعون بحياة متميزة عن الإنسان. فهم خالدونَ وأحرار من الألم والحُزنِ والموت. وإذا كان الإنسان محظوظاً في الحياة فسيكون غنياً ويستمتِع بحياة مترفةٍ، وهذا "التميُّز" هو لقلةٍ من الناس.
وردت عبارة "طوبى" 9 مراتٍ إشارةً إلى أولئكَ الذين يعيشون حياتهُم على وفقَ قلبِ الله؛ لذا يرى الله حياتهم بعيون الرضا (يُصادِق على أسلوب حياتهِم)، مثلما فعلَ في الخلقة: "ورأَى اللهُ جَميعَ ما صَنَعَه فاذا هو حَسَنٌ جِدًّا" (تك: 31). فأصل العبارة "طوبى" ينبَع من عبارة "حسَن: طوف: طاوا"، التي يقولها الله فاعلاً. فالبركة هي من الله، الذي ينجز البركة، ويُبارِك الوالدين وأصحاب السلطة. أما الطوبى فيلفظها الإنسان مُمجِّداً ما هو حسَن في حياة إنسان آخر. فما قام به ربّنا يسوع هو: أنه أعلنَ أن الأكثرية التي تُعاني من الفقر والألم والرفضَ بسبب اختيارها له، ومن ثُمَّ إلتزامها بمواقف حياتية لتصل إلى الله الحق، هم "مُباركونَ ومحظوظون"، مع أن اختيارهم يتضمّن الرفض والإضطهاد: الصليب. ربّنا أعلَن أن الطريق إلى الله هو طريق الصليب؛ لأنه طريق المحبّة. فمَن يحيا التطويبات يقتدِي بالله، الله المحبّة.
الطوبى إذاً هي لأناس اختاروا أن يُؤسسوا حياتهُم على الله، وهم يعلمون أنها ستكون صعبة بل مُؤلِمة على حدِّ تعبير بولس:
"فإِنَّنا لا نَجعَلُ لأَحَدٍ سَبَبَ زَلَّة، لِئَلاَّ يَنالَ خِدمَتَنا لَوم، بل نُوَصِّي بِأَنفُسِنا في كُلِّ شَيءٍ على أَنَّنا خَدَمُ اللهِ بِثَباتِنا العَظيمِ في الشَّدائِدِ والمَضايِقِ والمَشَقَّات والجَلْدِ والسِّجْنِ والفِتَن والتَّعَبِ والسَّهَرِ والصَّوم، بِالعَفافِ والمَعرِفَة والصَّبرِ واللُّطْفِ، بالرُّوحِ القُدُسِ والمَحبَّةِ بلا رِياء وكَلِمَةِ الحَقِّ وقُدرَةِ الله، بِسِلاحِ البِر، سِلاحِ الهُجومَ وسِلاحِ الدِّفاع، في الكَرامةِ والهَوان، في سُوءِ الذِّكْرِ وحُسنِه. نُحسَبُ مُضِلِّينَ ونَحنُ صادِقون، مَجهولِينَ ونَحنُ مَعروفون، مائِتِينَ وها إِنَّنا أَحياء، مُعاقَبينَ ولا نُقتَل، مَحْزونينَ ونَحنُ دائِمًا فَرِحون، فُقراءَ ونُغْني كَثيرًا مِنَ النَّاس، لا شَيءَ عندَنا ونَحنُ نَملِكُ كُلَّ شيَء". (2 كور 6: 3- 10)
الجبل: كرسي المُعلم
صعدَ ربّنا يسوع الجبل وجلسَ قريباً من حلقة التلاميذ والجموع الكثيرة من حولهم. فأول ما نتعلّمه عن التطويبات هو إنها موجهةٌ إلى حلقة التلاميذ، أولئِكَ الذين اختارهُم ربّنا يسوع وتبعوهُ عن قُربٍ. أُناس مسّهُم حضور الابن وإستجابوا لمُتطلباته: "فتَركا الشِّباكَ مِن ذلك الحينِ وتَبِعاه" ... فَتَركا السَّفينَةَ وأَباهُما مِن ذلك الحينِ وتَبِعاه" (متّى 4: 20- 22). إستجابتهُم لدعوتهِ جعلتهُم أُناساً فقراء يُعانون من العوز والحرمان والإذلال والرفض والعُزلةَ، وهذا يجعلهم مؤهلينَ للطوبى، لا بسبب فقرهم بل بسبب دعوةِ الله لهم بيسوع المسيح، وفي اتِّباعهِم له، ففقدوا كلَّ شيءٍ حتّى أنفسهُم. فإذا تمكّنَ التلاميذ، بنعمةِ الله، من الإستجابة لهذه الدعوة، فهذا يعني أن بإمكان الجموع الكثيرة التي تبعِت يسوع أن تتخذَ القرار نفسه، فالجميع مدعوون إلى أن يكونوا كما أرادهم الله (بونهوفر).
ربّنا لم يُلقِ خُطبة حكمية أو تعاليمَ عامّة، بل وجهّ الكلام إلى الذين قرروا أن يعيشوا الكلمة ويؤسسوا حياتهم عليها: "فمَثَلُ مَن يَسمَعُ كَلامي هذا فيَعمَلُ به كَمَثَلِ رَجُلٍ عاقِلٍ بَنى بيتَه على الصَّخْر. فنزَلَ المطَرُ وسالتِ الأَودِيَةُ وعَصفَتِ الرّياح، فَثارت على ذلكَ البَيتِ فلَم يَسقُطْ، لأَنَّ أساسَه على الصَّخر" (متّى 27: 24- 25). وهكذا يُبنى بيت التلمذة: بالإصغاء والعمل بالكلمة.
تؤمِن هذه الجماعة (جماعة التلاميذ)، مثلما نؤمِن نحن، بأن ربّنا يسوع هو كلمةُ الله، وهو الذي يُفسِر الشريعة ويُعطيها عمقها ويوليها الحياة؛ لأنه هو المُشرِع؛ لذا، لم يقف متّى عند ضجيج العداوة والخصام الذي نشأ في الكنيسة الأولى بين اليهود والوثنيين، بل دعاهم إلى الإصغاء إلى صوت كلمة الله، يسوع المسيح، الذي أرادَ أن يُنشئ تلاميذه، الكنيسة، على نحوٍ خاص، لخيرهم الشخصي، ولخير العالم كلّهِ.
هذه التنشئة تطلّبَت شكلاً من الإنسحاب من ضجيج أورشليم ليكونوا وحدهم: السماء والأرض والمُعلّم، تماماً مثلما فعلَ الله مع شعبهِ إذ أخرجهم من مصرَ العظيمة ليختلي معهم في البرية. الصعود إلى الجبل يُعيد إلى الذاكرة صعود موسى إلى جبل الله ليقبَل "الكلمات العشر" من الله، فقدّم متّى ربّنا يسوع مثل موسى الجديد، بل أعظم. فالفعل: "جلسَ" يُشير إلى سُلطان إلهي، بخلاف موسى والشعب الذين وقفوا يسمعون (خر 19: 16)، فجاء تعليمهُ مختلفاً عن تعليم الآخرين: إنه تعليمٌ ذو سُلطانٍ، وليس مثل الكتبةِ والفريسيون: "ولمَّا أَتَمَّ يسوعُ هذا الكَلام، أُعجِبَتِ الجُموعُ بتَعليمِه، لأَنَّه كانَ يُعَلِّمُهم كَمَن لَه سُلطان، لا مِثلَ كَتَبَتِهم". تعليمهُ جاء مُباشراً: "فشَرَعَ يُعَلِّمُهم قال ..."، ليس لدينا أي إشارة إلى أن ربّنا يسوع كان ينقل رسالةً أو تعليماً: "وكلّمَ الله ... هذا ما تكلّم به الربُّ ..."، لدينا تعليم مُباشر، فلم يعدُ الله يُكلِّم الناس عبرَ وسيط، موسى أو الأنبياء، بل صارَ يُحدثهم على نحو مُباشر بيسوع المسيح، المُعلِم الأوحد: "سمعتُم أنه قيل للأولين ...أما أنا فأقولُ لكم".
بجلوسهِ إذاً كشفَ ربّنا يسوع عن نفسهُ مُعلماً، وشكّل حلقة تعليمية هو مركزها، حلقةً مفتوحةً لكل مَن يُريد الإنضمام إليها، حيث قدّم "كلمة الله الجديدة" التي تُكمِل ما قدّمهُ بوساطة موسى، فالمعلمُ الأوحد يعرِف ما الذي يجول في فكرِ الله، وكيف يرى الله الإنسان والعالم. لقد أعطى الله كلماته العشر، التي أدانت الخطيئة، وسطَ البرق والرعود، بينما أعلنَ ربّنا يسوع دعوتهُ إلى المحبة الكاملة، فأكملَ الشريعة والأنبياء لأنه تحدّث من قلبهِ الإلهي إلى قلبِ الإنسان، فلم تعد كلمتهُ على الحجر، بل أصبحت في القلب:
"ها إِنَّها تَأتي أَيَّام، يقولُ الرَّبّ، أَقطعُ فيها مع بَيتِ إِسْرائيلَ (وبَيتِ يَهوذا) عَهداً جَديداً، لا كالعَهدِ الَّذي قَطَعتُه مع آبائِهم، يَومَ أَخَذتُ بِأَيديهِم لِأُخرِجَهم مِن أَرضِ مِصْرَ لِأَنَّهم نَقَضوا عَهْدي مع أَنِّي كُنتُ سَيِّدَهم، يَقولُ الرَّبّ. ولكِنَّ هذا العَهدَ الَّذي أَقطَعُه مع بَيتِ إِسْرائيلَ بَعدَ تِلكَ الأَيَّام، يَقولُ الرَّبّ، هو أَنِّي أَجعَلُ شَريعَتي في بَواطِنِهم وأَكتُبُها على قُلوبِهم، وأَكونُ لَهم إِلهاً وهم يَكونونَ لي شَعباً. ولا يُعَلِّمُ بَعدُ كُلُّ واحِدٍ قَرببَه وكُلُّ واحِدٍ أَخاه قائِلاً: "اِعرِفِ الرَّبّ"، لِأَنَّ جَميعَهم سيَعرِفونني مِن صَغيرِهم إِلى كبيرِهم، يَقولُ الرَّبّ، لِأَنِّي سأَغفِرُ إِثمَهم ولن أَذكُرَ خَطيئَتَهم مِن بَعدُ. (إرميا 31: 31- 34).
فالتطويبات ليست مثل الكلمات العشر "مُحرمات"، تُطالِب الإنسان بإلتزام حدود الطاعّة لله، بل دعوة لعيش خبرة الحُب الإلهي، خبرة القلبِ المُحِب, دعوة للإنسان الفقير ليكون مثل الله، "صارَ الكلمة إنساناً ليصيرَ الإنسانً إلهاً" (القديس أثناسيوس والقديس إيريناوس). إنسان ملكوت الله، إنسان العهد الجديد الذي يعيشَ حسبَ قلب الله، قلب ملؤه الحُب، قلب يدعو الإنسان ليكونَ مثل الله الذي اختارَ أن يكون إلى جانب الإنسان الفقير والمعدوم والمُهَمَش. إنه قلبٌ يُريد أن ينفُخ في العالم حياة الله، حياة المحبّة. الحياة التي تهبُ الإنسانَ السعادة الحقّة؛ لذا، فالتطويبات تصفُ حالة التلاميذ، عائلة الله: هم فقراء وجائعونَ وباكون ومُبغضونَ ومُضطهدونَ، لكنهم مُباركونَ وسعداء في الآب. هنا يُكمِل ربّنا يسوع الشريعة والأنبياء: "لا تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُبْطِلَ الشَّريعَةَ أَوِ الأَنْبِياء ما جِئْتُ لأُبْطِل، بَل لأُكْمِل". (متّى 5: 17) فالحُب هو إتمامٌ الشريعة"، "أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة:أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً. إذا أَحَبَّ بَعضُكُم بَعضاً عَرَف النَّاسُ جَميعاً أَنَّكُم تَلاميذي" (يو 13: 34- 35).
فمن أجل أن نفهَم معنى التطويبات يجب أن نضعَ نُصبَ أعيننا أن ربّنا يسوع هو المُعلِم وهو المُفسِر للتعليم، وأفضل تفسير لتعليمهِ هو حياتهُ. "لقد أفتقرَ لأجلكُم، وهو الغني، لتغتنوا بفقرهِ" (2 كور 8: 9). لقد أعلنَ ربّنا يسوع "التطويبات" وفيها كشفَ عن أسلوبَ حياتهِ؛ لأنه يعمَل قبل أن يُعلِّم: "وأَمَّا الَّذي يَعمَلُ بِها ويُعَلِّمُها فذاكَ يُعَدُّ كبيراً في ملكوتِ السَّمَوات" (متّى 5: 19). فهو أول مَن عاشَ التطويبات. إنّه الفقير الذي لم يكن له مسند رأسٍ يتكأ عليه (متّى 8: 20)، والوديع والمتواضع القلب (متّى 11: 20)، وصانعُ السلام.
ربّنا يسوع لم يتجسّد ليكون مع الإنسان في ألمهِ ومعاناتهِ وصراعاتهِ فحسب، بل ليُغيّر هذا العالم. روحُ الربّ كانت عليه ومسحتهُ (ماشيحا) من أجل رسالةٍ، وهي: "روحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَليَّ لِأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنى وأَرسَلَني لِأُبشِّرَ الفُقَرء وأَجبُرَ مُنكَسِري القُلوب وأُنادِيَ بِإِفْراجٍ عنَ المَسبِيِّين وبتَخلِيَةٍ لِلمَأسورين لِأُعلِنَ سَنَةَ رِضاً عِندَ الرّبّ وَيومَ آنتِقام لِإِلهِنا وأُعَزِّيَ جَميعَ النَّائحين. لِأَمنَحَهمُ التَّاجَ بَدَلَ الرَّماد وزَيتَ الفَرَحِ بَدَلَ النَّوح وحُلَّةَ التَّسْبيحِ بَدَلَ روحِ الإِعْياء فيُدعَونَ بُطْمَ البِرّ وأَغْراساً لِلرَّبِّ يَتَمَجَّدُ بِها" (إش 61: 1- 3). وأرسل إلى يوحنّا في سجنهِ قائلاً له: "اِذهبوا فَأَخبِروا يُوحنَّا بِما تَسمَعونَ وتَرَون: العُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون، وطوبى لِمَن لا أَكونُ لَه حَجَرَ عَثْرَة" (متى 11: 4- 6).
سيتعلّم القديسون هذه الحقيقة ويسعون لعيشها، ليكونوا هم بشهادة حياتهم تفسيراً حياً للكتاب المُقدس؛ لأنهم عاشوا هذه الكلمة بكل كيانهِم، وتمكنوا من تغيير العالم من حولهم، كلٌّ على وفق ما وهبَه الله من هباتٍ.