المواعظ
%PM, %25 %483 %2017 %13:%آذار

الأحد الخامس من الصوم أعمال الرحمّة: غفران الإساءات والإهانات

كتبه
قيم الموضوع
(0 أصوات)

الأحد الخامس من الصوم

أعمال الرحمّة: غفران الإساءات والإهانات (يو 7: 37- 53)

شهدِت علاقة ربّنا يسوع برؤساء الكهنة والفريسيون جدالات كثيرة، وخالفوهُ الرأي والرؤية في مناسباتٍ عديدة، وعارضوه فيما كان يقول ويعمل، وكانوا ينتظرون الفرصة للإيقاع به، لأنه بشّر بحبِ الله المجاني والذي يدعو الخطأة للتوبة والتقرّب إليه. وقفَ في آخر أيام عيد المظال يدعو الناس إلى المجيء إليه وقبول محّبة الله الغافِرة لأنه يعرِف أن فيهم عطشاً إلى المحبّة الغافرة، دعاهم ليشربوهُ وينسلَ فيهم فيحيوا به.

أعترض رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب والكتبة والفريسيون على هذه البُشرى، لأنهم كانوا يؤمنونَ، وعلّموا الناس، أن عليهم أن يجتهدوا ليرضّى الله عنهم، وأن عليهم أن يجتهدوا ليستحقوا هذه المحبة. ويجب أن يُطبقوا كل ما أمرت به الشريعة وأوصى به الآباء، أمّا ربّنا يسوع فكان يُعلمّ أن محبّة الله هي التي تجعلنا صالحين، وهي محبّة غافِرة حتّى لمَن عارضهُ، فحين أرادَ رؤساء الكهنة والفريسيون إنهاء علاقتهم بربّنا يسوع بالحكم عليه بالموت مُهاناً على الصليب، باركها هو بفعل الغفران التام: "أيها الآب إغفر لهم لأنهم لا يعرفون ما يفعلون" (لو 23: 34). فغفران الإساءة والخطايا كان في صُلبِ رسالة يسوع فهي أولى ثمار المحبّة وهي التي تجعل التوبة ممكنة: "عُد فالآب المُحِب ينتظرُك".

جميعنا يشعر بحالةٍ من الضيق إذا أساءَ إلى شخصٍ أو أهانهُ، ونرغبُ التأسفُ له وطلبَ غفرانهِ، وحتّى لو غفرَ لنا، نشعر بالإنزعاج من "شخصنا" الذي اقترفَ مثل هذه الإساءة، مثلما نشعرُ بالإرتياح عندما يغفر لنا أحدهم إساءتنا له. هو شعور بالتحرر والإنعتاق، لذا، يُعد غفران الإساءة عمل مًميّز من أعمال المحبّة الروحية، لأننا نكون على مثال إلهنا وخالقنا غافرين للقريب إساءتهِ، ومانحينَ له فرصة البدءِ من جديد، من دون أن يُؤدي حساباً عن إهانتهِ لنا. لذا، يصرخُ المُزمّر قائلاً: "طوبى لِمَن مَعصِيَته غُفِرَت وخَطيئَته سُتِرَت. طوبى لِمَن لا يَحسُبُ علَيه الرَّبّ" (32: 1-2)، هو يعرِف جيدّا عظمةَ هذا الشعور المُفرِح في نفس ِالإنسان. فالربُّ بمحبتهِ يغفِر للإنسان معاصيهِ وخطاياهُ فيتجلّى "قدوساً"، وهو يُريد من الإنسان أن يكون مثلهُ "قدوس ورحيمٌ، فلولا هذه المحبة الرحومة والغافرة ما كان للإنسان أن يحيا، هكذا، لن يكون بإمكان الإنسان من مواصلة العيش من دون الغفران.

ربّنا يسوع واجهَ عداوةً من رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيين، ولكنه لم يسمح لهذه العداوة أن تُفسَد نقاوةً قلبهِ مع قسوتها وجدّيتها. لذلك علّم الرُسل والكنيسة الرأفة الغفران، فلن تصحَ صلاةٌ إلى الله إذا لم تكن تعبيراً عن حقيقةَ علاقاتنا بالقريب: "أغفر لنا خطايانا كما نحن أيضاً نغفرُ لمَن أخطأ إلينا" (متّى 6: 12). فالغفران ليس هو "عطيّة" نأسرُ به القريب مُذكرينَ إياهُ ببشاعة ما صنعهُ لنا، بل جوابُ شُكرٍ لله الذي يغفِر لنا سوءَ نوايانا ويرغبُ دوما ًفي إنارة "ظُلمةِ قلوبنا" وقسوةَ مشاعرنا التي نتعَب في كبتها لئلا تتشوّه صورتنا أمام الآخرين، والله عالمٌ بهذا كلّه، ويُؤكِد لنا الغفران يومياً، وينتظِر منّا "أن نغفِر للآخرين" الإهانات والإساءات.

فمَن هو "العطشان" الذي يُناديهِ اليومُ ربّنا يسوع ليأتي ويشَرب لتكونَ له الحياة؟

هو الإنسان الذي جفَّ قلبهُ ويختبِر يبوسةً روحيةً تمنعهُ من الإنفتاح لكلمة الله التي يمنحها الآب نعمةً بيسوع المسيح. هو الإنسان الذي "حبسَ" نفسهُ في أزماتٍ ومشاكلَ وخطايا نسيها الله ولكنه، أي الإنسان العطشان" يسعى لأن تكون حاضرةً أمامهُ كلَّ حينَ لأنه لم يتقبل غفران الله له. هو إنسان لم يتمكّن بعدُ من أن يغفِر لنفسهِ "هفوات" الماضي وأخطائهِ. هو إنسان "توقفتّ" فيه الحياة لم يعد مُبدعاً مثلما يجب أن يكون لأن مشاعرهُ أضحتَ سلبيةً ومُدمرّة مثل "السرطان" الذي يبدأ بالإنتشار في جسمِ الإنسان من خلال إفساد الخلايا الحيوية. العطشان هو إنسان جفّت فيه المشاعَر ولم يعد يتحسس لحضور الله ولن يُميّز علامات الملكوت.

ينادي ربنا يسوع اليوم: "مَن كان عطشان فليأتِ إليَّ. ربنا يطلبُ منّا أن نقدّم له عطشنا ليرويهِ. يُريدنا أن نؤمنَ بهِ، فلا نُقسيَّ قلوبنا ولا نتركها تتآكل بمشاعر الغضب والرغبة في الإنتقام من الآخرين الذي أساءَ إلينا(عبر 3: 15)، بل نُقبلُ إليه تاركينَ همومنا وقلقنا مؤمنينَ أنه قادرٌ على تغيير حياتنا. هذه هي رغبةُ الله، إنه يُريد شِركتنا، فالله عطشانٌ إلى مَن هو عطشان إليه حسب تعبير القديس غريغوريوس النزينزي. ففي الله شوقٌ نحو الإنسان، وفي قلبِ الإنسان عطشٌ لن يرويهُ إلا الله.

سألواَ السيد باري والسيدة ماركريت عن الدافع الذي جعلهم يغفرون لقاتل إبنهم جيمي سنة 2008، فأجابت الأم: "الغفران يعني إنني لن أنتظرُ الإنتقام ولن أغضبَ، فلقد تحطّمَ هذا البيت بسبب مقتل جيمي ولن أسمح بأن يتواصل التدمير، يجب إيقاف ذلك".

الكنيسة تدعونا ونحن تجاوزنا منتصف الصوم لأن نترُك، والى الإبد، كل الإساءات التي تألمنا بسببها حتّى نتأهل للسير خلّف ربّنا يسوع في صعودهِ إلى أورشليم. نحن مدعوون من خلال الصوم لأن "نتخلّى عن ما يأسُرنا"، وغضبُنا "خطيئةٌ تُجفف منابع الحياة فينا، وتجعل اللقاء بالمسيح يسوع صعباً والالتصاقَ به مُستحيلاً فنحن لسنا قادرينَ على الوصول إليه مع هذه الإرتباطات. حياتنا جفّت من جراء "خطايانا" المتنوعةَ في أشكالها، خطايا تجاه الله وتجاه القريب وتجاه أنفسنا. فصرنا كآبين وحزانى ومهمومينَ بأمورٍ شتّى.

ربّنا يدعونا لأن نشربهُ، ليملئ شقوق حياتنا ماءَ الحياة لتكون مُستعدة لقبوله فتُثمرُ محبة وطيبةَ وسلاماً. ربّنا هو الماءُ الحي الذي ينساب في حياتنا ليُحيّ كلَّ ما هو ميّتُ وجافٌ فينا. لم يـأتِ ليدينَ بل ليبعثَ الحياة من جديد في أرضِ حياتنا الجافّة، فنكونَ على مثال القديسين، واحاتِ إستراحةٍ لكل مَن يبحث عن الحياة ولا يجدها، وتاريخُ الكنيسة يشهد لحياة قديسين قبلوا دعوةَ ربّنا يسوع فالتصقوا بهِ، فكان كلُّ مَن يلتقيهم يكتشِف فيهم فرحَ حضورَ المسيح يسوع شخصياً.

 

الخامس من الصوم

قراءة 62636 مرات

3223 تعليقات

رأيك في الموضوع

الرجاء اكمل كل الحقول المؤشرة بعلامة *