الأحد الثاني من الدنح
"صار إنساناً: تجسّد" (يو 1: 1- 28)
اختارَ الإنجيلي يوحنّا عبارة: "صارَ إنساناً" ليُبعِدَ كل شكَّ عن إنسانية يسوع ويُعطينا الشجاعة للسير خلفهُ تلاميذ أمناء، فهو بكرُنا، مُحققينَ دعوة القداسة التي دُعينا إليها. "صارَ إنساناً" أي، واحّد منّا، فعاشَ على أرضنا المجروحةَ بالخطيئة وحوّل العصيان إلى طاعة، والتمرّدَ إلى إيمان، والعداوة إلى مُصالحة. ما كان مُستحيلاً على الإنسان أن يُحققه بنفسهِ، التبرير والمُصالحة، صارَ مُمكناً بيسوع المسيح، كلمةُ الله المُتجسَّد بيننا. "صار إنساناً"، يعني أن الإنسان قادرٌ على أن يسمع الله ويراه ويلمُسه على نحوٍ لم يكن ممكناً من قبلُ: "ذاك الَّذي كانَ مُنذُ البَدْء ذاك الَّذي سَمِعناه ذاك الَّذي رَأَيناهُ بِعَينَينا ذاكَ الَّذي تَأَمَّلناه ولَمَسَتْه يَدانا مِن كَلِمَةِ الحَياة، لأَنَّ الحَياةَ ظَهَرَت فرَأَينا ونَشهَد ونُبَشِّرُكمِ بِتلكَ الحَياةِ الأَبدِيَّةِ الَّتي كانَت لَدى الآب فتَجلَّت لَنا. ذاكَ الَّذي رَأَيناه وسَمِعناه، نُبَشِّرُكم بِه أَنتم أَيضًا لِتَكونَ لَكَم أَيضًا مُشاركَةٌ معَنا ومُشاركتُنا هي مُشاركةٌ لِلآب ولاَبنِه يسوعَ المسيح" (1 يوحنّا 1: 1-3). لأن إلهنا لا يُريد أن يبقَ في علياء سمائه بعيداً عنّا وعن مخاوفنا وقلقنا وأحزاننا، ولم يكن إلهاً متغافلاً عن ألمِ الإنسان وعذاباتهِ، بل كشفَ دوماً عن نفسهِ إلهاً يعتني ويُبالي ويسمعَ صُراخَ مَن يدعو إليه بإيمان.
إلهُنا وملكُنا صارَ إنساناً بيسوع المسيح لأنه يُريد أن يُباركنا مُحبّاً. ومحبتهُ هي التي تُبادر دوماً لتُقربّنا. "صارَ إنساناً" أي تجسّد لأنه يُحبنا، ولم تكن خطايانا سببَ تجسده، فخطايانا لا تُسيّر قراراتِ الله، فهو أعظم من خطاياناً. قصدَ الله الأول وإرادتهُ كانت وما زالت: أن يكون بيننا: "عمانوئيل". الله محبة، وقراره كان منذ البدء وسيبقى محبّة، وهذه بُشرى المسيحية: نحن أبناء الله، الله المُحِب: "أَمَّا الَّذينَ قَبِلوه وهُمُ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِاسمِه فقَد مَكَّنَهم أَنْ يَصيروا أَبْناءَ الله". قصدُ الله كان منذ البدء أن يكونَ مع الإنسان الذي أرادَ بكبريائهِ وتشامخهِ أن يبنيَّ عالماً خاصاً بهِ، عالماً من دونِ الله، عالماً من دونِ محبّةٍ، فأضحى عالمَ نزاعاتٍ وحروبٍ وخصامٍ، وعالمَ الأوبئةِ والمجاعاتِ، عالماً يصرخُ من ظلمِ الإنسانِ، وعالماً مُستعبداً للخطيئةِ. وعلى الرغم من النُصح والإرشاد والتوجيهِ الذي وجهّه الله للإنسانِ، من خلال موسى والأنبياء، إلا إنَّ هذا الإنسان لم يتب، فقررَ الله أن يرسَل إبنهُ إنساناً ليُعلمَ الإنسان أن يعيشَ كإنسانٍ، فتجسّد وشاركنا الحياة، فكانَ عظيماً بمحبتهِ التي جعلتهُ قريباً منّا.
"صار إنساناً"، تجسّد كلمةِ الله ليس ليظهِر ظهوراً عابراً في حياة الإنسان، أو ليحلَّ في جسدِ أمنا مريم العذراء فحسب. ولم يأتِ في زيارة قصيرة مدّتها 33 سنة، بل جاءَ ليكونَ معنا طوال الأيامِ (متى 28: 20)، "ومن فيضِ نِعَمِهِ نِلنا جميعاً نعمةً على نعمةٍ". تجسّد ربنّا ليحلَّ فينا وبيننا وينتظرنا أن نقبلهُ مثلما قبلتهُ مريم أمنا: "ها أنا خادمةُ الربِ فيلكن لي حسبَ قولِكَ" (لو 1: 38). وهذا هو الإيمان الذي يُريد إلهنا أن يراهُ فينا: نحنُ خُداّمهُ على الأرض من أجل الإنسانِ. "صارَ إنساناً"، تجسّد لأنه يُحبنا وجاء إلينا ليُعلّمنا كيف لنا أن نُحبهُ. إلهنا يُحبنا أولاً ويخلّصنا ثانياً، وليس خلّصنا أولاً ثم أحبّنا، فالخلاص هو ثمرة محبّة الله لنا.
"صار إنساناً" تجسّد ربنا يسوع المسيح، كلمةُ الله، لكي يُعلّمنا كيف لنا أن نسمع كلمة الله ونحياها في تفاصيل حياتنا اليومية. كيف لنا أن نتكلّم كلامَ الله، كلامَ المحبة والنعمة مع الإنسان القريب. "صار إنساناً" ليجعلَ كلامنا مع الله كلام شُكرٍ وحمدٍ ملؤه إيمانٌ ومحبة له. ويُصحح كلامنا مع الإنسان ليكونَ كلاماً صادقاً فيه الحياة والحقيقة. نحن لا نُحسنُ الكلام مع الإنسان مثلما لا نعرف كيف نحاور الله، لذا، فالله نفسه علّمنا كيف نُصلي إليه، وكتاب المزامير، وهو صلوات أوحيت لنا بالروح القُدس يُعلّمنا كيف نُصلي إليهِ، وكيفَ نحاورُ الإنسان بالمحبة.
فإذا تأملنا كلامنا اليوم تُرى ما الذي سنكتشفهُ؟ أهو كلامٌ صادقٌ مُحيي أم إفتراءٌ مميتٌ؟ عندما سألوا أحد أباطرة الصين: ما الذي يُمكن للإنسان أن يعمله ليجعل العالم حسناً؟ أجاب: أن يُغيّر كلامهُ؛ أي أن يُعطي للكلام معناه الحقيقي. لذا، شدد مار بولس على ضرورة أن يكون كلامنا نافعا، بل نعمةً في حياة الآخرين: "لا تخرجن من أفواهكم أية كلمة خبيثة، بل كل كلمة طيبة تفيد البنيان عند الحاجة وتهب نعمة للسامعين" (أفسس 4: 29). فالكلمة السيئة ستكون دوماً تلك الكلمة الخالية من المحبة، والكلمة الطيبة هي تلك الكلمة التي تُعطي الرجاء، وفيها الكثير من المحبّة فتهبُ الحياة. الكلمة السيئة تعبيرُ عن الظلمات التي فينا والتي تسعى إلى إخفاء النور الذي أنعمَ به ربّنا علينا، فتمنعنا من لقاءِ أخينا الإنسان بل تُبعدنا عنه.
فلنشكرُ الله على تجسده وظهوره بيننا إنساناً في يسوع المسيح، والذي علّمنا كم نحن بحاجةٍ إلى الله، إلى المحبّة. لنسمح لكلمة الله، ربنا يسوع المسيح بأن يُحولّنا إلى "كلمةُ الله" التي تبعث الحياة في كل إنسان نلتقيهِ.