خطيئة الغضب
يُحكى في قديم الزمان عن أحد الأديرة الذي اعتاد أن يعقد جلسة نقاشات لاهوتية وفلسفية بين رهبانه المُتعلمين باللغة اللاتينية وهي بالطبع ليست اللغة المحكية عامة. ويُقال عن راهب بسيط في
خطيئة الغضب
يُحكى في قديم الزمان عن أحد الأديرة الذي اعتاد أن يعقد جلسة نقاشات لاهوتية وفلسفية بين رهبانه المُتعلمين باللغة اللاتينية وهي بالطبع ليست اللغة المحكية عامة. ويُقال عن راهب بسيط فيها تعوّد على حضور النقاشات رغم أن لا يعرف اللغة، ولكن ما امتاز به هو معرفته مَن المُخطئ في النقاشات؟ سأله صديقه كيف تحضر وأنت لا تُتابع النقاش؟ وكيف لك أن تعرف مُضَن المُخطئ وأنت لا تعرف الحوار؟ فقال: مَن المُخطئ؟ بسيطة لاحظ مَن الذي يتعصّب أول الجميع ذاك هو المُخطئ؟
"ألقوا عنكم الغضب والحقد" هذا ما يُوصينا به بولس الرسول، وينصحنا سفر الأمثال "أن لا نُصاحب الرجل الغضوب "(أمثال 22: 24) ويُباركنا ربُنا يسوع المسيح إذا ما اتشحنا بالوداعة "طوبى للودعاء فإنهم يَرون الأرض" (متى 5: 4) . ولكن رُغم ذك كلّه لا نستطيع مراراً من أن نتمالك أنفسنا أمام حالات ومواقف فترانا نثور من العصبية. حتى موسى تعصّب لما رأى شعبه يعبد العجل وهو منهمك في الصلاة والتأمل على جبل سيناء ليُحضر الوصايا. ربنا نفسه تعصّب لما رأى باعة الحمام والخرفان في الهيكل، وعندما واجه قساوة الفريسيين (مر 5: 3). مار بولس نفسه تعصّب عندما عرف غباوة القورنثيين وغيرها من المواقف من الأنبياء.
هنا أريد أن نُفّرق ما بين العصبية التي لا تُسيء إلى دواخلنا ولا تسمح للحقد أو العداوة أن تُوسخ قلوبنا، بل نُريد بها تصرفاً عادلاً من مَن هم حولنا أو مَن نتعامل معهم: كأن يكون في البيت أو العمل. هذه ليست خطيئة، بالعكس يقول القديس يوحنا الدمشقي: "مَن لا يغضب عند الحاجة، يرتكب خطيئة". بمعنى أن يكون هناك سبب عادل للغضب، ونية طيبة وتصرف عادل في التعامل مع الحالة من دون مُبالغة. هدفك هو مُعالجة الحالة لا الانتقام حاقداً. أما الغضب فهو فعل مُوجه نحو الآخر وفي النية الخلاص من وجوده إن أمكن. مشاعر فيها كبرياء يشعر فيها الإنسان أن كرامته انتهكت، ونظرة شريرة للآخر: "لا يستاهل العيش"، وبالتالي عدم إيمان بالله أباً عادلاً ومُحباً، وبالتالي نسمح للمُجرّب أن يزرع في قلوبنا بذور الكراهية ضد الآخرين. هناك نحاول أن نُذكر بإرشاد الله لأبينا قايين:"يا بُني انتبه الخطيئة على بابك". لأن الإنسان الغاضب يقتل نفسه بهذه المشاعر وبما يتخذه من أحكام ضد الآخرين. ويقتل مَن يغضب عليه، ويقتل مَن يستمع أو يراه.
بالطبع هناك مواقف تُزعجنا، ولكن المهم أن لا ننام ونحن غضِبون، فليس بيننا مَن ينوي سوءً بشكل مُتعمّد مع سبق الإصرار، وإن وُجِدَ فهو لأنه لا يُفهمُنا حقيقية. ما نحتاجه هو أن يتعرّف الآخرون علينا بشكل أكثر وضوحاً. العصبية تدعونا لأن نستفسر أكثر ونستعرف أكثر وبالتالي يعرفنا الآخرون ونتعرّف عليهم بشكل حقيقي. أما إذا تركنا مشاعر الغضب تتلاعب فينا فهي ستجرنا إلى انتقاد الآخرين، والانتقاص منهم ومن كرامتهم بشتى الوسائل حتى العنيفة منه. وندفن فينا الطيبة واللطف ليخرج منّا السخط والشراسة وكُلها تُؤلم روح الله الذي فينا، وتتركنا ضعفاء أمام الشيطان وتجاربه.
لنتأمل كيف غضب آدم فأتهَم حواء على تقصيره هو. كيف غضب قايين فقتل أخاه. كيف غضب أخوة يوسف فأرادوا التخلص منه رُغم معرفتهم أن هذا يُؤذي والدهم، وبيننا كثيرون هم ضحايا غضب الآخرين. زوجات تُعنَّف وتُضرب وتُهان، أولاد يتلقون غضب والدهم من دون أسباب عادلة. والسوء من ذلك هو مَن لا يستطيع أن يُعبّر عن غضبه فيدفنه في داخله.
إلهنا وملكنا يَدُلنا في كتابه على أن الصبر والوداعة وعدم التعامل مع الغضب بالغضب طريقنا للانتصار عليه. لم يكن ولن يكن الغضب حلاً للأزمات بل مُعقدها أكثر، بالعكس الوداعة تسمح للآخر بأن يُعيد التفكير في مواقفه فيعود تائباً. بالطبع هناك تصرفات وسلوكيات من الناس تجعلنا نتخذ مواقف صارمة، ولكن ليس دفاعاً عن أنفسنا ولكن دفاعاً عن مواقف وقيم. ربنا أمسك سوطاً على تجار الهيكل لا دفاعاً عن نفس، ولكن للدفاع عن أبيه السماوي الذي رأى أنه يُهان. دفاع بدأه بالتعليم والمثل الصالح أمام الجميع الذين شهدوا لهم أحسنَ شهادة. أما الاهانات التي وُجِهَت إليه فتقبلها ربنا بقلب كبير طالباً من أبيه أن يغفر لهم.
ولنا في الملكة أستريد ملكة بلجيكا أمثولة رائعة إذ يُحكى أنها كانت خارجة يوماً للتسوّق ولما أنهت تسوّقها من محل خرجت وإذا بطفل يصدمها، وبدلَ أن يعتذر لها أسمعها كلمة بذيئة: فقال له بلطفٍ وحنانِ:
- يجب أن لا تتلفظ بمثل هذه الكلمات يا بُنيَّ!
- أنت لست أمي فلماذا هذه التوصيات !!! أجابها الطفل.
- بل أنا أمك أيضا يا بُني ! أنا الملكة !
ونظرَ إليها الطفل بعينين واسعتين ثم ركعَ أمامها، وبصوت مضطرب خائف قال لها: أحلف لك يا مليكتي أنيّ لن أعود أتلفظ بمثل هذه الكلمات!!! فانحنت علية الملكة وأنهضته، ثم أخذت تلاطفه وتدلّله وتمسح شعره ودموعه. هذا الطفل عاد إلى نفسه أمام حنان وتسامح الملكة واعتذرَ واعداً بالتوبة.
هذا يجعلنا نسأل أنفسنا: كيف نواجه تصرفات الناس المُخطئة تجاهنا؟ هل نرد العنف بالعنف ! والشتيمة بالشتيمة ! ترى ما الذي سنحصده من ذلك؟ ربنا يُبارك وداعتنا ويُريدنا في هذه الصوم أن نتوب عن غضبنا ونُبادر الآخرين بالإكرام، فلنصلِ للرب ليُقوينا في صومنا هذا لنتشبه بوداعته.