"قُمِ آنطَلِقْ إِلى نينَوى المَدينَةِ العَظيمة"
(يو 1: 2، 3: 2)
وجّه الرّبُ هذا النداء إلى يونان مرتين ليُوقظهُ على مسوؤليتهِ على سلامة حياة شعب مدينة نينوى الذي يقول عنه الكاتب: أن شرّها صعدَ أمام الربّ. لم يُفكّر يونان يوماً أن الله سيدعوه إلى هذه الرسالة، لربما كان مُستعداً للتجوال في الهيودية والسامرّة يُوبّخ الشعب على خياناتهم، ويستنكر سلوكيات قادة الشعب، ولكن أن يُدعى لرسالة خارج ما هو مألوف، فهذا كان "المهمّة المُستحيلة". فإول ما نتعلّمه من تأملنا في قصّة يونان: هو أننا مدعوون لرسالةٍ لم نختارها ولم نرغبُ فيها، وليست وفقَ ما نتطلّع إليه أو نرجوهُ، بل جاءتنا مطلباً والتزاماً شخصيا، وهي تتطلّب جواباً شخصياً لا يُمكن الإفلات منه مهماً حاولنا. حاول يونان التهرّب من المسؤولية ولكنّ الربَّ واصلَ متابعته وكرر له النداء: "فقامَ يونانُ لِيَهرُبَ إِلى تَرْشيشَ مِن وَجهِ الرَّبّ، فنَزَلَ إِلى يافا، فوَجَدَ سَفينَةً سائِرةً إِلى تَرْشيش. فدَفَعَ أُجرَتَها ونَزَلَ فيها لِيَذهَبَ مَعهم إِلى تَرْشيشَ مِن وَجهِ الرَّبّ".
"قُمِ آنطَلِقْ إِلى نينَوى المَدينَةِ العَظيمة". اين هو مكان الرسالة؟ في نينوى عاصمة الأشوريين. المدينة الوثنية التي تسلّطت على إسرائيل سنين طويلة: "ويلٌ لمدينة الدماء الممتلئة بأسرها كذبا وخطفا، والتي لا تُفارقها الفرائس!" (نح3: 1). نينوى رمز للمدينة الوثنية البعيدة من الله الغارقة في الفحشاء والظلم. ما يطلبهُ الله من يونان هو أشبه بالمُستحيل، وهذا الذي دفع يونان إلى الهرب، والمفارقة كانت: أن يونان الهارب من الوثنيين، ينتهي به الحال ليكون تحت رحمة الوثنيين: "فأَلْقى الرَّبُّ ريحاً شَديدةً على البَحْر، فكانَت عاصِفَةٌ عَظيمةٌ في البَحْر، فأَشرَفَتِ السَّفينَةُ على الِآنكِسار. فخافَ المَلاَّحونَ وصَرَخوا كُلٌّ إِلى إِلهِه، وأَلقَوُا الأَمتِعَةَ الَّتي في السَّفينَةِ إِلى البَحرِ لِيُخَفِّفوا عَنهم. أَمَّا يونان، فكانَ قد نَزَلَ إِلى جَوفِ السَّفينةِ وآضَّجَعَ وآستَغرَقَ في النَّوم. فدَنا مِنه رَئيسُ البَحَّارَةِ وقالَ لَه: "ما بالُكَ مُستَغرِقاً في النَّوم؟ قُمْ فآدعُ إِلى إِلهِكَ لعَلَّ اللهَ يُفَكِّرُ فينا فلا نَهلِك". نوم يونان تعبير صريح عن حالة الرفض للرسالة الذي كُلِفَ بها، لأنه واعي إلى جدّية المهمّة التي كلّف بها، فهو لن يذهب ليُثرثر حديثا عن الله، بل سيُعلِن عن إيمانهِ الشخصي بإله الآباء، في مضادّة مع ما يرغبهُ هو إزاء أهل نينوى.
خصوصية الاختيار: أن أكون معلماً، تجعلني متميّزا، مفروزاً، مُكرساً فتهبُ لي هوية خاصّة، ومعنى للحياة. فلم أعدّ نفس الشخص قبل وبعد وعيَّ لدعوتي. في الدعوة إرادة إلهية في خلقٍ جديد يتطلّع دوماً إلى "إستجابة" واقعية وفاعلة من قبل المدعو. يقينا، لم يختارني الربَّ لهذه الرسالة بناءً على إمكانياتي ومؤهلاتي ومكانتي الاجتماعية، بل تتجاوز ما أنا عليه وتأخذني إلى حيًثُ يُريدني الله أن أكون، لأنه اختارني عن محبّةٍ، وفي اختياره هذا أرادَ أن يجمع كلَّ قواي وتشتتي ليجعل منّي رسولاً للناس: "قُمِ آنطَلِقْ إِلى نينَوى المَدينَةِ العَظيمة". فإذا اختارنا ربّنا لنكون "رُسلاً" له في الكنيسة ونقود أبنائهُ إليه، فيجب أن لا يُشعرِنا هذا بالكبرياء بل، يُحفزنا للعطاء بتواضع نرغبُ فيه تمجيد إسم ربّنا: "تُعظمُ نفسي يالربّ وتبتهِج روحي بالله مخلصي".
ولكن كيف لي ان أحمُل هذه الرسالة؟ هل انا ناقلُ معلومات وحقائق؟ أم أن الربَّ يتطلّع إلى أكثر من ذلك؟ حقيقة حياة شعب نينوى وُصفت بالشريرة، ولكنهم، وعلى حدّ تعبير الرب: "جهلة لا يعرفون يمنهم من شمالهم": "أَفَلا أُشفِقُ أًنا على نينَوى المَدينةِ العَظيمةِ الَّتي فيها أَكثَرُ مِنِ آثنَتَي عَشرَةَ رِبْوةً مِن أُناسٍ لا يَعرِفونَ يَمينَهم من شِمالِهم، ما عدا بَهائِمَ كَثيرة؟". فلستُ إناً ناقِل معلومات وأفكار، بل حاملاً لمحبّة الربِّ وشفقتهِ ورأفتهِ: "فإِنِّي عَلِمتُ أَنَّكَ إِلهٌ رَؤُوفٌ رَحيمٌ طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الرَّحمَةِ ونادمٌ على الشَّر". وهذا ما يُميّزنا: نحن حاملوا محبّة الله ورأفتهِ، وعلينا تقع مسؤولية تجسيدها واقعاً في حياتنا، فالذي اختارتنا، مسحَنا لنكون نورأً لمَن هم من حولنا. "أنا الربُّ دعَوتُك في البر، وأخذتُ بيدك، وجبلتُك، وجعلتُك عهدا للشعب ونورا للأمم: لكي تفتح العيون العمياء، وتُخرج الأسير من السجن والجالسين في الظلمة من بيت الحبس" (إش42: 6-7).
هكذا يُصبح اختيار التعليم دعوة إلى عيش حياة الأبوّة، أن أُنجِبَ للمسيح يسوع أبناء وبنات، مثلما عبّر عنها الرسول بولس في عدّة مناسبات: ففي رسالته إلى كنيسة غلاطية، كتبَ قائلاً: “يا بني، أنتم الذين أتمخض بهم مرة أخرى حتى يصور فيهم المسيح” (غلا 4، 19). وخاطبَ الكورنثيين: "أريد أن أنصحكم نصيحتي لأبنائي الأحباء. فقد يكون لكم ألوف الحراس في المسيح، ولكن ليس لكم عدة آباء، لأني أنا الذي ولدكم بالبشارة، في المسيح يسوع، فأحثكم إذا أن تقتدوا بي" 1 كور 4، 14 – 16). "عاملونا بمثل ما نعاملكم. إني أكلمكم كلامي لأبنائي، فافتحوا قلوبكم أنتم أيضا" (2 كور 6، 13). وأعتادَ أن يُنادي طيموثاوس:" ابني المخلص في الإيمان” (1 تيم 1، 1 – 2). أو "ابني الحبيب. عليك النعمة والرحمة والسلام من لدن الله الآب والمسيح يسوع ربنا” (2 تيم 1، 1 – 2). وكذا الحال مع فيلمون: "… آثرت أن أسألك باسم المحبة سؤال بولس الشيخ الكبير الذي هو الآن مع ذلك سجين يسوع المسيح. أسألك في أمر ابني الذي ولدته في القيود، أونيسمس الذي كان بالأمس غير نافع لك، وأما الآن فلي ولك صار نافعا. أرده إليك، وهو قلبي" (فيل 9 – 12).
فالتعليم المسيحي هو عملية إنجاب يلد فيها الرسول المؤمنين إلى حياة الإيمان. هذه الولادة لا تحتل مكان أبوة الله بل هي ثمرة الإيمان، بحيث يضحي من يلد أبًا في الآب. يقول بولس في هذا الصدد: "أجثو على ركبتي للآب الذي منه تستمد كل أبوة اسمها في السماء والأرض" (أف 3، 15). الرسول ليس أبًا بفضل ذاته، بل بفضل أبوة الله الآب التي منه تستمد أبوته في المسيح اسمها وجوهرها وديناميتها.
ونسأل هنا، ما هي صفات هذه الأبوّة؟
يُدرِج الكاردينال توماش شبيدليك، بعض خصائص الأب الروحي:
أولاً: أن يكون "روحانيًا" أي مملوءًا من الروح القدس: أي أن يكون ممتلئًا من حياة الشركة مع الله.
ثانيًا: أن يكون ممتلئًا بمعرفة الله، متسربلاً بالله. معرفة بالله ترافقها بشكل محتم معرفة الذات.
ثالثًا: التطلع، والذي يحتاج بدوره إلى الانتباه وإلى الصلاة.
رابعًا: معرفة القلوب والضمائر ومعرفة القلوب تتطلب قلبًا نقيًا، ويشرح الكاردينال شبيدليك: “لقد خلقنا الله لكي يفهم أحدنا الآخر. لقد أدت الخطيئة إلى إقامة أسوار فصلت قلوبنا بعضها عن بعض. أما تطهير القلب فيساعدنا إلى تحطيم هذه الحواجز”.
خامسًا: التمييز: من يعيش في الله ينمي في فردوس قلبه شجرة معرفة الخير والشر الحقة، يحوز في قلبه عين الله. من يقف في حضرة الله، من يتوب إلى الله يبدأ بتمييز الخير من الشر، ويضحي كفم الله، وكـ “سفير الله” وكأن الله ينطق بفمه (راجع 2 كور 5).
سادسًا: الأمانة إلى التقليد: فالأب الروحي يأخذ أبوته في صلب أبوة الله الآب وفي حضن الكنيسة الأم. وهو أب حقًا بقدر ما يكون ابن حقًا لله الآب في الكنيسة.
سابعًا: الشفاعة. الأب الروحي يقوم بدور إبراهيم الذي يشفع بأهل سدوم وعمورة، وموسى الذي يشفع بإسرائيل في حضرة الله، والأنبياء، ويسوع المسيح الذي صلى لأجل خاصته دومًا، وبشكل خاص في الصلاة الكهنوتية التي يقدمها الإنجيلي يوحنا لا ليجعل منها الصلاة الوحيدة التي يرفعها يسوع ككاهن وجودي، بل كتعبير عن ما تردد دومًا في قلب يسوع المصلي والشفيع.
نرفع الصلاة اليوم في هذه الذبيحة الإلهية لأن يُبارككم ربّنا جميعاً بأن تكونوا رُسلاً أمناء له، وآباء وأمهات في الإيمان لكلِّ من أوكِلَ إلى عنايتكم، شاكراً لكم بإسم الكنيسة خدمتكم.