التطويبة السادسة
طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله
القلب في الكتاب المُقدس
يُشير الكتاب المقدس إلى أن القلب هو مركز كيان الإنسان العميق الذي يحوي كل مشاعره وعواطفه وأفكارهِ. هو عمقُ النفس العاطفي وهو يُملي على الإدراك والإرادة ما ينبغي ان يسلكاهُ. فيه نُقرر ما نُريده لحياتنا، ومنه تصدر أحكامنا وقراراتنا. القلب هو عينُ الإنسان الداخلية وذاتهُ الحقيقية ومنبعُ كلامه وسلوكياتهِ: "وأَمَّا الَّذي يَخرُجُ مِنَ الفَم، فإِنَّهُ يَنْبَعِثُ مِنَ القَلْب، وهو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان. َمِنَ القَلْبِ تَنْبَعِثُ المقَاصِدُ السَّيِّئَة والقَتْلُ والزِّنى والفُحْشُ والسَّرِقَةُ وشَهادةُ الزُّورِ والشَّتائم" (متّى 15: 18- 19).
وفي الفكر الكتابي تُشير عبارة "نقيُّ القلب" إلى الإنسان الذي اقترن كل إيمانه بالله ويعيش حياة الطاعة له بقلب متحّد به لا إنفصامَ فيه (غير منقسِم)، فيُريد ما يشاءُ الله فحسب. قلب ليس فيه أفكارٌ سيّئة أو خبيثة، ليضحى مكان لقاء الله من خلال الصوم والصلاة والصدقة (6: 1- 18)، وليعكس حياة الوحدة بين ما يُفكِر به الإنسان وبين سلوكياتهِ الخارجية، فلا رياء في تعبّده لله ولا إزدواجية في علاقاتهِ مع الآخرين. فتكون النقاوة الداخلية (نقاوة القلب) هي أصلُ النقاوة الخارجية (نقاوة اليدين)، ومثل هذا الإنسان يعرِف الله حقا، يراهُ، لأن رؤية الله تعني معرفتهُ: أَمَّا أَنا فبِالبِرِّ أُشاهِدُ وَجهَكَ وعِندَ اليَقظَةِ أَشبعُ مِن صورَتكَ" (مز 17: 15)، وهي أعظم تطويبة ينالها الإنسان: أن يُعاينَ وجه ألله.
خطورة الرياء
شجبَ ربّنا يسوع خطيئة الرياء لدى الإنسان بشدّة. فالإنسان المرائي يُظهِر للناس فضائل لا يمتلكها ويُقدّم صورة كاذبة عن تقواه وفضائلهِ، بل ويتمادى في استغلال اسم الله بحثاً عن مجدٍ شخصي، ويجعل من الله وسيلة لينال المديح؛ لأن إهتمامهُ ينصبُ على نفسه وعلى جذب انتباه الآخرين، وهو مُدمنٌ على ذلِك. تراه يهتمُ بالمظاهر الخارجية أكثر من اهتمامهِ بالقلب وما يحمله من أفكار ونيّات ومشاعر؛ لأنه يبحث عن استحسان الناس ورضاهم ونيل إعجابهم أكثر من اهتمامه بما يُريده الله منه، والله ينظر إلى القلب (1 صم 16: 7). المرائي –بذلِكَ- يكشِف عن حالة من عدم الإيمان، إذ لا يحب الله ولا يُحبُ القريب، فالقريب مقبول لديهِ بقدرِ ما يُبدي إعجابهُ بشخصه هو، ولنا أن نسمعَ ربّنا يسوع يُعنّف الكتبة والفريسيين قائلاً:
"الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم تُطَهِّرونَ ظاهِرَ الكَأسِ والصَّحْن، وداخِلُهما مُمتَلِئٌ مِن حَصيلَةِ النَّهْبِ والطَّمَع. أَيُّها الفِرِّيسيُّ الأَعمى، طَهِّر أَوَّلاً داخِلَ الكَأس، لِيَصيرَ الظَّاهِرُ أَيضاً طاهراً. الوَيلُ لَكم أَيُّها الكَتَبَةُ والفِرِّيسيُّونَ المُراؤون، فإِنَّكم أَشبَهُ بِالقُبورِ المُكَلَّسَة، يَبدو ظاهِرُها جَميلاً، وأَمَّا داخِلُها فمُمتَلِئٌ من عِظامِ المَوتى وكُلِّ نَجاسَة. 28وكَذَلِك أَنتُم، تَبدونَ في ظاهِرِكُم لِلنَّاسِ أَبراراً، وأَمَّا باطِنُكُم فَمُمتَلِئٌ رِياءً وإِثماً" (متّى 23: 25- 28).
مَن يُصلي بإيمانٍ: "قَلبًا طاهِرًا اْخلُقْ فيَّ يا الله ورُوحًا ثابِتًا جَدِّد في باطِني (مز 51: 10)"، سيعمل إذاً على مقاومة تجربة الرياء في حياتهِ ويسعى ليكونَ نزيهاً أمام الله وأمام الآخرين، ليرغَبَ قلبهُ في أمرٍ واحد: "مشيئةِ الله"، "لتكُن مشيئتُك"، ويتعبّد له بكل قلبهِ وفكره وذهنه وقوتّه، ولا يوجَد إلهٌ آخر (تعلّقٌ) يُمكن أن يكون له مكانٌ في قلبه: "ما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَعمَلَ لِسَيِّدَيْن، لأَنَّه إِمَّا أَن يُبغِضَ أَحَدَهُما ويُحِبَّ الآخَر، وإِمَّا أَن يَلزَمَ أَحَدَهُما ويَزدَرِيَ الآخَر. لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال" (متّى 6: 24).
طهارة القلب والفكر والشفاه
تعوّد الناس في حديثهم عن الطهارة بالتركيز على موضوع: "السيطرة على الذات" التي تعني سعي الإنسان ليُسيطرَ على أفكارهِ وأحكامه وقراراته ومواقفه فلا ينقاد لمشاعره بل يتفحصّها ويفعل ما هو صحيح وما هو متوافق مع العقل، لاسيما فيما يتعلّق بقضايا الغرائز الجنسية. وهذا ما يؤمِن به الجميع. ولكن ما جديد المسيحية في ذلِك؟
جديد المسيحية هو أن الطهارة ليست محددة بفعل السيطرة على الذات، فهذا يجعل الإنسان من ذاتهِ هدفاً. الطهارة هدفها المسيح يسوع، إذ أنها تعبيرٌ عن "عطاء الذات التام للمسيح يسوع"، فالحياة هي للمسيح: "الحياة عندي هي المسيح" (فل 1: 21)، "لستُ أنا الحي، بل المسيح يحيّا فيَّ" (غلا 2: 20). المسيح هو الذي يُسيطر على حياة الإنسان: عقلهُ وفكره ومشاعرهُ وعواطفهُ، المهم أن تُسيطر أنت يا إنسان على غرائزكَ، بل الأهم أن يسيطر المسيح عليك؛ ليُواصِل عمله الخلاصي من خلالِك، فنحن جسدُ المسيح: "أَوَ ما تَعلَمونَ أَنَّ أَجسادَكُم هي هَيكَلُ الرُّوحِ القُدُس، وهو فيكُم قد نِلتُمُوه مِنَ الله، وأَنَّكُم لَستُم لأَنفُسِكُم؟ فقَدِ اشتُريتم وأُدِّيَ الثَّمَن. فمجِّدوا اللهَ إِذًا بِأَجسادِكم" (1 كور 6: 19- 20). هنا يواجهنا بولس بالبعد المسيحاني والروحي (عمل الروح القُدس) والإرسالي للطهارة.
هذا المفهوم المسيحاني للطهارة يتسامّى بها من "ضيق" الطهارة الجسدية والمرتكزة على السيطرة على الغرائز الجنسية، ليشملَ طهارة القلب والفكر من الأفكار الرديئة والغضب والحقد والحسد والغش، وكذلك طهارة العين والشفتين من الكلمات البذيئة، فينكشِف جمال الطهارة في نزاهة الشخص وصدقهِ فيحيا حياة المسيح: "لِنَسِرْ سيرةً كَريمةً كما نَسيرُ في وَضَحِ النَّهار. لا قَصْفٌ ولا سُكْر، ولا فاحِشَةٌ ولا فُجور، ولا خِصامٌ ولا حَسَد. بلِ البَسوا الرَّبَّ يسوعَ المسيح، ولا تُشغَلوا بِالجَسَدِ لِقَضاءِ شَهَواتِه" (روم 13: 13- 14). فلا يُمكن الصلاة إلى الله بشفاه طاهرة وقلبٍ دنسٍ مليء بالعداوة والخصامِ. الإنسان(بكلِّيّته) مدعوٌ إلى أن يكون طاهراً أمام الله ويتقدّس بحضورهِ فيرى العالم بعيون الله، ويختبر حضوره في حياتهِ.
طوبى لأَطهارِ القُلوب فإِنَّهم يُشاهِدونَ الله
طاهر القلب: إنسان يسعى لأن يعيش واقعاً ما يُصلِّيهِ: "ليتقدّس إسمكَ، ليأتِ ملكوتُكَ لتكُن مشيئتُك"، فيعمَل كل شيء ٍمن أجل أن يتقدَس اسمُ الله ويأتي ملكوته وتتحقق مشيئتهُ على الأرض. لا يبحث عن مديحٍ بشري أو إرضاء هذا أو ذاك من الناس، بل يُريد أن يُرضي الله الذي يُصلي له: "أبانا". ليس مُهتماً بما سيقولهُ الناس عنهُ وكيف سيرونهُ، بل الأهم عنده هو: كيف يراهُ الله. يستغل مواهبهُ وإمكانياتهِ من أجل مجد الله وخير البشر لا من أجل نيل استحسان الناس وكسبِ رضاهم. فهو يُريد ما يُريدهُ الله؛ لأنه مُلكُ الله وحسب: "يا أَبتِ، إِن أَمكَنَ الأَمْرُ، فَلتَبتَعِدْ عَنِّي هذهِ الكَأس، ولكن لا كما أَنا أَشاء، بَل كما أَنتَ تَشاء" (متّى 26: 39)، وبذلِك يسمح لله بأن يكون إلهاً يُحبهُ من كل قلبه وكل نفسه وكل ذهنهِ (متّى 22: 37). هو يُصلي مع المزمّر: "عَلِّمْني يا رَبُّ طرقكَ فأَسيرَ في حَقِّكَ. وَحِّدْ قَلْبي فأَخافَ اْسمَكَ. أَيُّها السّيدُ إِلهي بِكلَ قلبي أحمَدُك وللأَبدِ أُمَجدُ اْسمَك" (مز 86: 11- 12) ليجمع شتات محبة قلبه المنقسِم في تعلّقات كثيرة، ويتمركز حُبه في مخافة الله. وهكذا سينالَ نعمة مُشاهدة الله. فـ "غايَةُ هذِه الوَصيَّةِ هي المَحبَّةُ الصَّادِرةُ عن قَلْبٍ طاهِرٍ وضَميرٍ سليمٍ وإيمانٍ لا رِياءَ فيه" (1 تيمو 1: 5).
طاهرُ القلب: جعلَ كنزهُ في الله فصارَ قلبهُ يرنو إلى الله والى القريب. ينسى نفسه؛ لأنه يُحب الآخر (الله والقريب)، ويخسرها من أجل ما يُحبهُ. ليس مدمناً على الطعام أو الشراب أو الملبس أو المتعة، بل مؤمنٌ بتدبير الله الآب: "لا يُهِمَّكُم لِلْعَيشِ ما تَأكُلون ولا لِلجَسَدِ ما تَلبَسون. أَلَيْسَتِ الحَياةُ أَعْظَمَ مِنَ الطَّعام، والجَسدُ أَعظَمَ مِنَ اللِّباس؟ ... فلا تَهْتَمُّوا فَتقولوا: ماذا نَأكُل؟ أوماذا نَشرَب؟ أو ماذا نَلبَس؟ فهذا كُلُّه يَسْعى إِلَيه الوَثَنِيُّون، وأَبوكُمُ السَّماويُّ يَعلَمُ أَنَّكم تَحْتاجونَ إِلى هذا كُلِّه. فَاطلُبوا أَوَّلاً مَلَكوتَه وبِرَّه تُزادوا هذا كُلَّه. لا يُهِمَّكُم أمرُ الغَد، فالغَدُ يَهتَمُّ بِنَفْسِه. ولِكُلِّ يَومٍ مِنَ العَناءِ ما يَكْفِيه" (متّى 6: 25- 33). ولأن قلبهُ صارَ مُلكَ الله، سيرى الآخر والعالم بعيون الله، عيونٍ تُبارِك كل شيءٍ وتستحسِنُه من دون أن تسعى لاستغلالهِ من أجل تحقيق رغبات شخصية. يُحبِ مثلما يُحب الله، و"المَحبَّةُ تَصبِر، المَحبَّةُ تَخدُم، ولا تَحسُدُ ولا تَتَباهى ولا تَنتَفِخُ مِنَ الكِبْرِياء، ولا تَفعَلُ ما لَيسَ بِشَريف ولا تَسْعى إِلى مَنفَعَتِها، ولا تَحنَقُ ولا تُبالي بِالسُّوء، ولا تَفرَحُ بِالظُّلْم، بل تَفرَحُ بِالحَقّ. وهي تَعذِرُ كُلَّ شيَء وتُصَدِّقُ كُلَّ شَيء وتَرْجو كُلَّ شيَء وتَتَحمَّلُ كُلَّ شيَء. المَحبَّةُ لا تَسقُطُ أَبَدًا" (1كور 13، 4- 8).
طاهر القلب: إنسان مُؤمنٌ بالله الذي قَبِلهُ إبناً، برحمتهِ على الرغم من خطاياه، فلن يدين الآخرين؛ لأنه يعرِف أن الخشبة التي في عينيه ستمنعهُ من رؤية القذى في عين أخيهِ (متّى 7: 5)؛ ولأن الله يُؤمِن بالخير الذي في الإنسان أكثر من الشّر الذي يقترفهُ، لذلِك، يمتلِك صاحبُ القلب الطاهِر نظرة إيجابية عن الآخرين بعيدة عن السذاجةِ؛ لأن أفكاره ونيّاته نقيّة، يرى فيهم الخير والصلاح ويُفسّر إيجاباً سلوكياتهم ومواقفهم ويسعى لأن يتفهم أخطاءهم من دون أن يتنكّر لها: "أَينَ هُم، أَيَّتُها المَرأَة؟ أَلَم يَحكُمْ عَليكِ أحَد؟" فقالت: "لا، يا ربّ". فقالَ لها يسوع: "وأَنا لا أَحكُمُ علَيكِ. إِذهَبي ولا تَعودي بَعدَ الآنَ إِلى الخَطيئة". إنسانٌ يعرِف أن قلبهُ قد طهرّه الله وجددهُ: "قَلبًا طاهِرًا اْخلُقْ فيَّ يا الله ورُوحًا ثابِتًا جَدِّد في باطِني" (مز 51: 12)، وعليه أن يشهدَ لهذا التجدد في شهادة حياتهِ التي تتقبّل الخطأة مثله، وتسعى لأن يُسلّموا إلى الله حياتهم ليُطهرها ويُجددها بروحه مثلما فعل معه، فيكون شاهداً للرحمة الإلهية.
طاهر القلب: إنسانٌ نزيهُ وصريحٌ في نواياهُ، صادقٌ في أفكاره، شجاع في تعامله مع ذاتهِ وأمينٌ في علاقاتهِ مع الآخرين، فلا يُضمر لهم مكراً أو خُبثاً، لا يظنُّ السوء بهم ولا يمدح زيفاً أو يفتري كذباً. شجاعتهُ عقلانية لا تدفعه إلى التهور، بل يزنُ الأمور ويتعامل معها بحكمةٍ ويقظة، يقظةٌ تبدأ بمراقبةِ نيّاته ومشاعره وأفكاره ودوافعهِ قبل أن يُراقبِ حياة الاخرين (فحص الضمير)، فيُتابِع عن كثب "تحركات الداخل" بموازاة سلوكياتهِ الخارجية، مراقبة تجعله أكثر انفتاحاً على الروح القُدس وأكثر نُضجاً إنسانياً. هو مؤمنُ بأنه لو احتفظَ بغضبٍ أو ضغينةٍ على أحد فإنه لن يحظى بإصغاء الربّ له: "لو كُنتُ رأيتُ إِثمًا في قَلْبي لَما اْستَمعَ السَّيِّدُ لي" (مز 66: 18)؛ لذا، عليه أن يتخلّى كلياً عن هذه الضغينة ليكون القلبُ كلّه لله. يعيش العدالة والرحمة بمحبّة، مُدركاً أنه عليه أن يُمارس التوبة على نحو شخصي ومتواصل؛ لئلا يُجرَب فيفسَد قلبهُ ويُصبح مرائياً. من هنا، جاء تركيز آباء الصحراء في القرن الرابع على صلاة القلب، وهي صلاة تُصلّى مع حركة تنفس الإنسان، ليحصل على نقاوة القلب من خلال إحياء القلب بالصلاة إلى الله مثلما يحيا الإنسان بالتنفس.
طاهُر القلب: إنسان قلبهُ موجهٌ نحو الخير والصلاح فلا يضمرُ الشّر للقريب ولا يُريد الإساءة إليه، ليس فيه عنفٌ وغضبٌ تجاه الآخرين. إرادتهُ الطيّبة تجعله يُبادِر بالخير نحوهم، وهو على مثال الله سخيّ في العطاء، وبالمجّان. طهارة قلبهِ تجعلهُ نقيَّ العيون وطاهر اليدين ومتحرراً من المقاصد السيئة والرغبات النجسةِ وسيُترجِم نقاوة القلب هذه من خلال نقاوة اليدين وعفّة القكرِ، فيكون عفيفاً في قلبه ففكره ثمّ في جسدهِ، مؤَهَلاً ليقِف أمام الله نقي الكَفَّين وفيّاً لوعوده، غير حلاّفٍ بالخداع (مز 24: 3-5). هو الذي يقول عنه المزمّر:
"السَّالِكُ طَريقَ الكَمالِ وفاعِلُ البِرِّ والمُتَكَلِّمُ مِن قَلْبِه بِالحَقِّ. مَن بِلِسانِه لا يَغْتاب وبِصاحِبِه لا يَصْنعُ شَرًّا وبِقَريبِه لا يُنزِلُ عارًا. الرَّذيلُ حَقيرٌ في نَظَرِه ومَن يَتَّقونَ الرَّبَّ يُكرِمُهم وإِن أَقسَمَ، مُضِرًّا بِنَفْسِه، لم يُخلِفْ. لا يُقرِضُ بالرِّبى فِضتَه ولا يَقبَلُ على البَريءَ الرَّشوَة. فمَن عَمِلَ بِذلكَ لا يَتَزَعزَعُ لِلأبَد. (مز 15).
طاهر القلب: إنسانٌ يؤمنِ أن العين هي سراجٌ الجسد (متّى 5: 22)، لذا، يسعى أن يحفَظ نفسه مُحرراً من نظرة الخوف من ماضيِه، ومن نظرة القلق على مُستقبلهِ. لا يملك نظرة الجشع والبحث عن المتعة وتجنّب الألم. لا يرى العالم والاخرين من خلال بعين المثاليات التي تجعله يترفَّع متكبراً على الذات وعلى الآخرين. عينه ليست عين غضبٍ بل مُباركة. قلبٌ يُخطئ ولكنه لا يحتفِظ بالخطيئة فيه، بل يعمل على الخلاص منها سريعاً بالتوبة إلى الله والصلاة إليه؛ ليخلُقَ فيه قلباً نقياً، لا خوفاً منه بل محبةً له؛ لأنه عارفٌ أنه جرحَ قلبَ الله بالخطيئة، وأهانهُ عندما احتفِظ بالخطيئة في حياتهِ وسعى لإخفائها (خطيئة داود مع بتشابع).
طاهرُ القلب: يعمل على حِفظِ نفسه من الفساد فلا يُجالِس أهل الباطل والشر ولا يسير مع المرائين بحثاً عن متعةٍ عابرة أو المشاركة في مكيدة شريرة، يُغذي قلبهُ بخير الكلام، يُغني المُخيلة بحُسن المُشاهدَة، يُقويّ يديه بأعمال الخير والإحسان، يُدّرب أذنيه على سماعَ عبارات الشُكر والحمد فيُبارِك الله على نعمة الحياة ونعمة الإنسان القريب ويُحدِّث بعظائم الله في حياتهِ وحياة القريب، فنجاح القريب لا يُثير في نفسه الحسد والغضب، بل يجعله يُبارِك الله شاكراً. فالمرائي يغضَب عندما يرى أن الناس ليسوا بالتقوى التي يعمَل على إظهارها، لأنه "إنسانٌ مُتدينّ" وليس "إنساناً مؤمناً"؛ لأن الإيمان بالله الآب المُحب والرحيم يجعل الإنسان يُحِبُ الآخرين لاسيما الخطأة، أما المتدين فهو مدمنٌ على "الإعجاب بالأنا"، فيثور غضباً ويدين الناس من دون رحمةٍ؛ لأنه إنسانٌ متكبّرٌ وغير مؤمن.
يسوع المسيح: نقيُّ القلب
نُصلي دوماً إلى إلهنا وملكنا: "أَطلعِ عَلينا نورَ وَجهِك، يا ربّ" (مز 4: 7)، فوجهك يا ربُّ ألتمس (مز 27: 8). واستجاب إلهنا لصلاتنا فأخذ بيسوع المسيح وجهًا بشريًّا، صار بيننا ومعنا: "عمانوئيل"، الذي عاشَ محبة الله وقُربه منّا؛ ليُرينا وجه الله المُحِب، فمن رأه رأى الآب.
أحبَّ ربّنا يسوع الله من كل القلب وكل الفكر وكلَ الذهن، وأحبَّ القريب بالمحبّة ذاتها التي أحبَّ بها الله. لم يجازي الشر بالشر، بل غلبَ الشر بالخير، بالغفران. آمن بالله وأحبَّ أن يُتمم مشيئتهُ دوماً، قدّم حياتهُ ليكون في خدمة مشروع الله: ملكوتهِ. لم يكن يطلُب مجده الشخصي بل تمجيد الله الآب (يو 8: 50). كانَ نَبِيّاً مُقتَدِراً على العَمَلِ والقولِ عِندَ اللهِ والشَّعبِ كُلِّه (لو 24: 19)، يكرِزُ بالبشارة ويعمَل بها. لم يُحابي أحداً، بل نطق بالحقيقة دوما؛ لأنه كان هو الحقّ: "يا مُعَلِّم، نَحنُ نَعلَمُ أَنَّكَ صادِقٌ لا تُبالي بِأَحد، لأَنَّكَ لا تُراعي مَقامَ النَّاس، بل تُعَلِّمُ سبيلَ اللهِ بِالحَقّ" (مر 12: 14). لم يستغل إنساناً لمصلحتهِ، بل انحنى يخدُمهم وهو المعلّم والسيّد. لم يُخطىء، ولكنه جعل نفسه خطيئة من أجل الإنسان، فأطاعَ حتّى الموت، موت الصليب. لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة (عبر 4: 15). عاش مُحباً وشاكراً الله على كل ما وهبهُ له: "أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَواتِ والأَرض" (متّى 11: 25).
إنصبَّ اهتمام الكتبة والفريسيين على الطهارة الخارجية، فركزوا على أهمية أن يُبعدِ الإنسان نفسه عن كل ما يجعلهُ نجساً (أماكن وأشياء وأطعمة وحيوانات وأُناس) ومن ثَمَّ غير مؤهلٍ لأن يدخُل هيكلَ الله ويقفَ أمام حضرتهِ، فصنّفوا الناس إلى مجموعتين: طاهرة ونجسة. واجه ربّنا يسوع هذه العقلية ببشراه السارة وكان أميناً لهذه البُشرى التي أعلنها وكرّس حياتهُ كلها لملكوت الله الذي يضمُ الجميع، لاسيما الخطأة والمُهَمَّشين، فتناول الطعام مع الخاطئين ولمسَ البُرص وخالط الوثنيين وفضحَ رياء الكتبة والفريسيين مُعلماً الجميع أن النجاسة تبدأ من القلب:
"ودعا الجَمعَ ثانِيةً وقالَ لَهم: "أَصغوا إِليَّ كُلُّكُم وافهَموا: ما مِن شَيءٍ خارجٍ عنِ الإِنسان إِذا دخَلَ الإِنسانَ يُنَجِّسُه. ولكِن ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان". ... ما يدخُلُ الإِنسانَ مِنَ الخارِج لا يُنَجِّسُه، لأَنَّهُ لا يَدخُلُ إِلى القَلْب، بل إِلى الجَوْف، ثُمَّ يَذهَبُ في الخَلاء. وفي قَولِه ذلك جَعَلَ الأَطعِمَةَ كُلَّها طاهِرة. وقال: "ما يَخرُجُ مِنَ الإِنسان هو الَّذي يُنَجِّسُ الإِنسان، لأَنَّهُ مِن باطِنِ النَّاس، مِن قُلوبِهم، تَنبَعِثُ المَقاصِدُ السَّيِّئةُ والفُحشُ وَالسَّرِقَةُ والقَتْلُ والزِّنى والطَّمَعُ والخُبثُ والمَكْرُ والفُجورُ والحَسَدُ والشَّتْمُ والكِبرِياءُ والغَباوة. جَميعُ هذِه المُنكَراتِ تَخرُجُ مِن باطِنِ الإِنسانِ فتُنَجِّسُه. (مر 7: 14- 23).
أسئلة للتأمل الشخصي:
- هل تشعر بخيبة أمل (وغضب) عندما لا يقول لك مَن أحسنتَ إليه: شُكراً؟ هل تغضب لعدم تقدير مَن هم من حولِك لصلاحِك ولجهودِكَ؟ هل تتألم عندما ينال أحدهم مديحاً أو تكريماً وتشعر بأنّك أنت أحقُّ منه بهذا التكريم؟ هل تفرح بنجاح الآخرين، وتُبارِك الله على هذه النعمة، أم تنزعِج؛ لأن الله لم يُباركك مثلهُ؟ هل تغضبَ من عدم اهتمام الناس بالصلاة والصوم والصدقة؟ هل تنزعِج من ابتعادهم عن الكنيسة؟ ما الدافع لهذا الغضب؟ أَهُوَ محبةً بالله الذي ينساه الناس، أم غضباً؛ لأنهم ليسوا مثلما تُريد أن يكونوا؟
- يُصلي المزمِّر: "أَللَّهُمَّ اْسبِرْني واْعرِفْ قَلْبي، إِمتَحِنِّي واعرِفْ هُمومي واْنظُرْ هل مِن سَبيلِ سوءٍ فِيَّ؟ واْهْدِني سَبيلَ الأبد" (مز 139: 23- 24). ما أهمية ممارسة "فحص الضمير لك"؟ هل تتحدد بمراجعة السلوكيات الخاطئة التي اقترفتها؟ أيهُمّك في ذلك المحافظة على وصايا الله ووصايا الكنيسة؟ هل تراجع وتُقيّم مشاعرَك ونيّاتك والدوافع التي تقف وراء مواقفك وسلوكياتِك على نحو دوري؟ أيّهما أسهل لديك: مراقبة الناس أم مراقبةُ الذات؟ أتسعى لإيجاد مُبررات لسلوكياتِك أم تُقيّمها بأمانة أمام الله؟ هل تخافُ خبرة فحص الضمير؟
- ما الذي تفعله للسيطرة على الغضب الداخلي الذي فيك تجاه الأشخاص ومواقفهم؟ كيف تتعامل مع مشاعر الحسد التي تنتابُك إزاء نجاح أحدهم؟ هل فكرتَ يوماً بتسقيط هذا وذاك من الناس وفضحه أمام الملأ؟ هل شاركتَ في مثل هذه السلوكيات؟ هل تندمت عليها، أم تعدها موقفاً عادلاً يستحقهُ الآخر؟ ما الغضب(الخطيئة) الذي ما زلتَ محتفظاً به في قلبِك؟ هل طلبَ منّك الله التخلي عنه ومازلتَ غير قادرٍ على ذلِك؟
- سألَ ربّنا يسوع بطرس: "يا سِمْعانُ بنَ يونا، أَتُحِبُّني أَكثَرَ مِمَّا يُحِبُّني هؤلاء؟" ..."يا سِمْعانُ بنَ يونا، أَتُحِبُّني؟" ... "يا سِمْعانُ بنَ يونا، أَتُحِبُّني حُبّاً شديداً؟" (يو 20: 15- 17)، وهو يسألَك اليوم أيضاً: "أتُحبُني أكثر مما تعلّقَ قلبُك به؟ ما أهمية نظرة الآخرين الإيجابية عنّك؟ أتجتهِد لأن يتحدّث الناس عنّك بطيبِ الكلام، أم تسعى لعمل ما يُرضي الله أولاً وقبل كل شيءٍ؟ هل اتفقَ وأن خالفتَ ما يُمليه عليك ضميرُك من أجل إرضاء أحدهِم؟ هل قُمت بتزوير الحقائق بحثاً عن منفعة شخصية أو معنوية؟
- هل تُبالي بانتقادات الناس لكَ؟ ما مدى تأثيرها على حياتِك؟ متى كانت آخر مرّة انتقدَكَ الآخرون فيها؟ هل شعرَت بالاحباط، أم بالحُزِن والغضَب، أم لم تكترث أصلاً لانتقاداتهم؟ هل حاولت محاورتهم، أم سعيتَ لإصلاح ما هو مُعيبٌ في مواقفك؟
- أوصى الرسول بولس تلميذه طيموثاوس بأن يتجنّب الكلام الفارغ والمجادلات السخيفة التي تولّد المُشاجرات (2 تيمو 2: 14- 26) فهل حدث وأن كنتَ يوماً طرفاً في مثل هذه المجادلات؟ أَكنتَ محفزاً لها، أم مُشجعاً وموافقاً؟ هل عملتَ على الحدِّ منها، أم إنّك لم تُبالِ بما يُقال أو يُشاعَ عن هذا وذاك من الناس؟ أَتحفَظ عينيك من رؤية ما لا يليقُ بكرامةِ الآخر، وتُحارِب مثل هذه المشاهِد، أم ترى أن الأمر لا يعينك البتّة؟
نختُم لقاءنا هذا بصلاة للقديس أفرام عن القلب النقي:
اللَّهم اخلق لي قلباً نقياً، عفيفاً، طاهراً، بسيطاً، لا يفكر بالشر، ولا تأوى إليه الشهوات.
قلباً نقياً، لا يعرف الثلب ولا يغتاب قريبه.
قلباً نقياً، يملأه الحب دائماً، وفي كل حين يبتغي الأمان والسلام لكل إنسان.
قلباً نقياً، يحب الصوم والصلاة والسهر واذلال الجسد والعمل والتعب دائماً.
قلباً نقياً يبتغي التواضع ويلزم السكينة والبشاشة مع الجميع.
قلباً نقياً أكلته غيرة بيتك، ولا يقعد عن مناصبة مخالفي شريعتك.
قلباً نقياً يحب الصدقات ويوزعها ويشفق على ذوي الحاجة ويروي بني جلدته.
يا مُحب البشر ضع فيّ مثل هذا القلب واغرس مخافتك كالغرسة النامية.
يا رب هب لنا نقاوة القلب لنكون مؤمنين حقيقيين باسم الرب يسوع المسيح له المجد.